عن وقتى الضائع
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 19 فبراير 2019 - 11:45 م
بتوقيت القاهرة
يسألون، أتنسى كما ننسى؟ أجيب بسؤال. كيف أرد وأنا لا أعرف كيف تنسون ولا ماذا تنسون ولا متى تنسون. كل ما أعرف هو أننى صرت كثير النسيان. أنا مثل غيرى من كبار السن كثيرا ما أنسى أسماء الناس والأشياء. لا أنسى كل الأسماء. إن نسيت فقد نسيت فقط ومؤقتا الأسماء ذات الصلة بحاضر حياتى ومسئولياتى. أنسى تفاصيل أماكن ومواعيد لقاءات حتى صرت أطلب، بغير خجل، من الطرف الآخر تذكيرى قبل اللقاء بوقت قصير بمكانه وموعده. وفى أثناء اللقاء أتعمد إدارة الحديث ليبقى دائما فى سياقات الماضى.
غريب أمرى بل وأمر كل من هو فى مثل عمرى. أتحدث بطلاقة لم أعهدها فى كل موضوع تغوص جذوره وتفاصيله فى الماضى البعيد، وأحيانا البعيد جدا. كنت، قبل يومين، أحكى عن بيت نشأت فيه وقضيت فى رحابه الواسعة شطرا من طفولتى. حكيت كيف كانوا يضعوننا فى داخل مشربية تطل على شارع مزدحم. على الناحية الأخرى من الشارع يقوم مسجد بسيط الحال وعلى مقربة من بابه رجل يبيع البليلة من وعاء نحاسى ضخم منصوب فوق عربة خشبية. فجأة، كما فى كل مرة حكيت حكايتى مع المشربية وبائع البليلة، انتبهت إلى أن من يسمعنى يحاول أن يخفى عدم التصديق. كيف لإنسان فى عمرى أن يتذكر ما وقع له أو شاهده وهو لا يزال فى عمر وعقل الشهور المعدودة. وكيف لعاقل، لم يخرف بعد، أن يحكى مرات عديدة هذه الحكاية من دون أن يعتذر عن تصديقه هو نفسه لها رغم استعداده لقبول فكرة أن يكون قد تسرب إليها عبر الزمن من عالم الخيال وضغوط الحنين ما جعلها تبدو الآن غريبة على السمع وعصية على التصديق.
***
كبار السن ينسون الكثير مما يقع لهم ولم يمر على وقوعه إلا وقت بسيط. لست خبيرا فى علوم النفس لكنى سمعت وربما اقتنعت بأن وراء نسيان الكبار السريع سببين رئيسيين. ننسى لأن وعاء الذاكرة يكون فى هذه السن المتقدمة قد امتلأ وما يستجد يذهب أكثره هباء فى فضاء لا حدود له ولا أعماق. لن نذكر موعد تناول أقراص هذا الدواء أو ذاك. أنسى أين وضعت مفاتيح السيارة والمجلة التى كنت أتسلى بقراءتها والموبايل الذى يكره أن يفارقنى. أميل إلى الاقتناع بما ذهبوا إليه كسبب للنسيان. نعم فاض الوعاء ولم يعد يتسع لإضافة جديدة.
***
ذهبوا أيضا إلى أن وسائط الاتصال الإلكترونية وكثافة استخدامها سبب آخر لتفاقم ظاهرة النسيان عند كبار السن. لاحظوا أن كبار السن من الجيل الحالى ينسون أكثر من كبار السن من جيل أسبق. لاحظوا أن أهالينا لم يشكوا من النسيان بقدر ما يشكو أحفادهم. فى رأى هؤلاء نحن ننسى أكثر لأننا سمحنا لأنفسنا خلال عقد السبعينيات أن نستخدم البريد الإلكترونى واسطة اتصال ففقدنا متدرجين ملكة التركيز. كنا، قبل أن تقتحم هذه الوسائط حياتنا، نفكر. كنا نفكر كثيرا وندقق ونحن نكتب بالقلم وعلى الورق. كنا أيضا نفكر ونحن نبعث برسالة شفهية عن طريق الهاتف، نركز على ما نقول ونركز على ما نكتب.
كنا قبل وقوعنا فى أسر البريد الإلكترونى وحلفائه نخصص وقتا لقراءة الرسائل وأغلبها ورقى. لا نجيب إلا بعد تفكير ومنعزلون عن أسباب التشتيت. كنا أوفر قدرة على التركيز فيما نقرأ أو نفعل. أظن أن أحد أهم أسباب تردى مستوى التعليم الجامعى هو إقبال الطلاب والأساتذة على الانشغال بوسائط اتصال أغلبها يكره أن يرى الطالب أو الأستاذ متفرغا ليفكر. أشعر كما لو أنها صنعت خصيصا لمطاردة لحظات الفراغ. هذه اللحظات هى فى بعض المهن ضرورية لتجديد الفكر وتصنيف المعلومات والمدخلات فى عقل الإنسان. هى أيضا ضرورية للتدريب على استعادة المخزون. طاردوا لحظات الفراغ حتى كاد يكون صعبا مستحيلا التمييز بين الحالتين أو الفصل بينهما، حالة العمل وحالة الفراغ.
***
أعرف كثيرين من أبناء جيلى فقدوا بعض قدرتهم على التركيز. منهم من يشكو ومنهم من لم يلاحظ إلا أنه صار كثير النسيان. أعرف مبدعين توقف إبداعهم. أسمع أساتذة جامعيين يعتذرون عن نقص إنتاجهم العلمى والأكاديمى بحجة أن وقتهم ضائع فى مهام غير أكاديمية، أسمع آخرين يعترفون بأنه خلال الانتقال إلى العالم الرقمى انكمش حيز المنافسة فى الوسط الأكاديمى. حلت الحاجة إلى التدريب على سرعة الإجابة محل الحاجة إلى التدريب على التركيز. أقرأ فى الدوريات الأمريكية عن ضحالة فى الفكر تحل تدريجيا محل الإبداع. يتحدثون عن ضحالة فى الأدب وفى العلوم الإنسانية كما فى علم الاقتصاد وأن الإبداع كاد يقتصر على صناعات البرمجة وعلومها وبخاصة برمجة الذكاء وإنتاج البديل لإنسان صار يخرب فى الأرض أكثر مما يعمر، إنسان مشتت العقل وفاقد الهدف من وجوده فى مجتمع فقد فعلا بوصلة الإرشاد والتوجيه.
***
امتحنت صديقا فى مثل عمرى فقال «أستطيع وبسهولة بالغة أن أكتب هذا الصباح فى دفتر يومياتى تفاصيل يوم، أى يوم فى صيف، أى صيف خلال عقد انتصاف القرن الماضى، قضيته مع العائلة أو الشلة فى سيدى بشر أو فوق هضبة الأهرامات. ولكن لا تطلب منى سطرا واحدا أكتبه عن يوم، أى يوم من أيام الأسبوع الماضى. وإن كتبت فسيكون بصعوبة بالغة ولن يفى بأى غرض. «أدرت وجهى نحوه مشجعا وقلت» لا تكتئب يا صديقى فقد قرأت منبهرا لأدباء كبار فى المكانة وفى العمر تصدوا للغزو الإلكترونى حتى استعادوا من براثنه طاقة التركيز قبل أن يبددها واستخلصوا لحظات فراغ طال الحنين إليها».
***
تدخل زميل قديم محتجا ليقول «أسمعكما تعتذران للناس بالنسيان. لست أفهم ما دخل الناس بذاكرتيكما ولماذا الاهتمام بهم وبما يظنون. أنا شخصيا أرفض سمعة النسيان وأفضل عليها شبهة الإهمال ورفض الالتزام. لا أحد يحق له استجوابى. لقد أديت واجبى كاملا تجاه كل الناس والمجتمع. لست مدينا لأحد. من حقى أن أتصرف كما أشاء، لا أحد يعاتبنى على موعد أخلفت أو وعد بلقاء لم أوفِّه. أنا الآن ملك لنفسى، ولنفسى فقط، تفعل بى ما تشاء فعله وأفعل بها ما تسمح لى بفعله».