من الديمقراطية إلى السيادة الشعبية
وائل جمال
آخر تحديث:
الثلاثاء 19 فبراير 2019 - 11:40 م
بتوقيت القاهرة
اختارت مجلة الايكونوميست البريطانية، العتيدة في محافظتها، أن تضع على غلافها لهذا الأسبوع تحذيراً من صعود ما تسميه باشتراكية جيل الألفية. فبحسب استطلاع حديث لجالوب، فإن أكثر من نصف الأمريكيين ما بين 18 و29 عاماً صار لديهم نظرة إيجابية تجاه الاشتراكية، وهي نسبة مذهلة بالنسبة لمن كانوا يعتبرون كعبة الرأسمالية وقبلتها محصنة ضد الـ "S word"، أو الكلمة التي تبدأ بحرف إس، سُبَّة الاشتراكية. فقد ظلت كلمة شبه محظورة في السياسة الأمريكية إلى سنوات قليلة. لم يفت الإيكونوميست بالطبع التنويه إلى أن هذه التجليات الأمريكية الجديدة بين جيل الألفية أو جيل "الواي"، تعاني من "التشاؤم الزائد والسذاجة فيما يخص الموازنات والبيروقراطية وعالم الأعمال". وبينما تؤكد المجلة أكثر من مرة أن الاشتراكية ليست حلاً، تشير لانسحاب السياسيين اليمينين من المعركة إلى "الشوفينية والحنين للماضي"، بينما عمل اليسار الجديد على تقديم نقد لمشكلات الرأسمالية المعاصرة بالتركيز على قضايا اللامساواة والبيئة وكيف يستعيد المواطنون السلطة من النخب الثرية.
لم تخبرنا الإيكونوميست بالطبع كيف يمكن حل مشاكل الرأسمالية بطريقة أخرى لكنها على الأقل، وعلى العكس ممن يتبنون أفكارها في بلادنا، تعترف بأزمة الرأسمالية وأزمة الديمقراطية التمثيلية، حيث صار الاغتراب عن العملية السياسية والحزبية والبرلمانية لا يقتصر على ديكتاتوريات العالم الثالث وإنما سمة من سمات الديمقراطيات التمثيلية العريقة في أوروبا والولايات المتحدة. ولا يمكن الفصل بين هذه الأزمة وبين الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الرأسمالية في مرحلتها النيوليبرالية المالية، ولا بينها وبين الفشل في التعامل مع مشكلتي المناخ وتصاعد اللامساواة. ومن بين ما تتجاهله الإيكونوميست في الحالة الأمريكية أن الظاهرة ليست أمراً جيلياً محضاً، وإن كان الشباب بالطبيعة هو مكون أي حراك جذري، وإنما لها سياقات اجتماعية اقتصادية وسياسية طبقية. فقد شهد عام 2018 مثلاً أعلى معدل للإضرابات العمالية في الولايات المتحدة منذ عام 1986، بمشاركة ما يقرب من نصف مليون عامل. تخيلوا! عمال وإضرابات في أمريكا!
***
ينطلق الأكاديمي المولود في البرازيل والذي يدرّس في جامعة نيويورك بالولايات المتحدة جيانباولو بايوكي، من الحركات الاجتماعية من أجل العدالة الاجتماعية التي اندلعت في أمريكا اللاتينية قبل عقود وتمتد الآن للولايات المتحدة والعالم كله، كي يقدم تصوراً أولياً حول ما يجب أن يخلف الديمقراطية التمثيلية المأزومة: السيادة الشعبية.
يشير بايوكي، والذي عمل فترة من حياته في بورتو أليجري قبلة الحركات الاجتماعية العالمية في البرازيل، في كتاب صادر منتصف 2018، بعنوان "نحن، أصحاب السيادة"، إلى أن مفهوم السيادة كان أساسياً في تلك التحركات الجماهيرية الواسعة لمقاومة الديكتاتورية والليبرالية الجديدة في أمريكا اللاتينية. "من أوروجواي للمكسيك لبورتوريكو، تحدثت الحركات بلغة ومصطلحات السيادة، والحكم الذاتي وممارسة هذا الحكم عبر مؤسسات الدولة"، كما يقول في مقدمة الكتاب. ويذكرنا بايوكي هنا أنه لا يتحدث هنا عن اليسار من النمط البيروقراطي القديم أو أولئك الذين يستخدمون السيادة في مواجهة الضغوط الأمريكية كتبرير لقمع الناس.
تشير السيادة الشعبية إلى حكم الناس، وغالباً ما تستخدم الدساتير المصطلح دون وجه حق. يقول مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية قبل قرون في 4 أكتوبر 1860، إن المصطلح يجري على لسان الخطباء والدهماء المهيجين "لأنه يفوح منه الحقائق العظمى التي يقوم عليها أساس المؤسسات الحرة". لكن الناس أبعد ما يكونون عن تلك السيادة في المجتمعات المعاصرة، ففي قلب أزمة الديمقراطية التي يمر بها العالم، يشعر الناس أنه لا قول لهم في القضايا الأهم بالنسبة لحياتهم، مهما تغيرت اختياراتهم في صندوق الانتخابات. يقول بايوكي إن البحث عن ديمقراطية أعمق وأكثر جذرية صار مهمّة لا غنى عنها كي يتجاوز العالم "هذه اللحظة التي هي من بين الأسوأ في تاريخه".
السيادة الشعبية التي يقدمها الكتاب كمشروع بديل، وليس هدفاً نهائيا بحد ذاته، تقوم على مكونين: الأول، هو "نحن"، والثاني هو معني السيادة بالنسبة لمؤسسات الدولة. فيما يتعلق بالـ "نحن"، يستمد الكاتب نظرته من وحي تجربة الحركات الاجتماعية في أمريكا اللاتينية، والتي خلقت ما يسمى بالمد الوردي في بوليفيا والإكوادور والبرازيل وغيرها. يقول بايوكي إن الـ"نحن" هنا ليست الشعب كما يستخدمه الشعبويون لتعزيز العنصرية والعداء للأقليات، إنما "نحن" المشاريع الديمقراطية الجذرية التي تعني "الكتلة التاريخية للمضطهدين"، المكونة من العمال وفقراء المدن والفلاحين والسكان الأصليين بلا أرض والمنحدرين من أصول أفريقية، هي الكتلة البشرية التي تأتي للوجود بفعل نضالها التاريخي من أجل معاشها وحقوقها والاعتراف بها". التعريف هنا مفتوح على مكونات مختلفة بحسب التجربة التاريخية للصراعات من أجل العدالة والديمقراطية في كل مكان. يميز بايوكي 3 سمات أساسية للـ "نحن". أولاً أنها كتلة مفتوحة على كل مكون جماهيري يحارب على الأرض من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وثانياً، أنه في خضم هذه الصراعات تظهر تلك اللمحات والخيال الذي يمكن في المستقبل من تجاوز الوضع الراهن الثقيل، كآليات الديمقراطية المباشرة التي قادت لتجربة بوديموس في إسبانيا مثلاً، والسمة الثالثة هي أنها يجب أن تكون مساواتية، ولا يعني هذا أن تكون بلا بنى تنظيمية أو بلا قادة ولكن أن تخضع تلك البنى وأولئك القادة للتمحيص والنقد والمستمرين بلا هوادة. "أحياناً ما يتسبب غياب البنى هو نفسه في إعادة إنتاج علاقات القوة وإن بطرق مختلفة".
وتمثل السيادة، وهي المكون الثاني في السيادة الشعبية بجانب الـ"نحن" مشكلة. فعلى مدى تاريخ الحركات الاجتماعية المقاومة كان التعامل مع المؤسسات معضلة: هل نتجاهل تغيير مؤسسات الدولة؟ هل نشتبك معها؟ وفي تجارب كسيريزا في اليونان أو حزب العمال البرازيلي، ألم تأخذ التجربة هذه الحركات إلى مناطق التدجين للدرجة التي نزعت عنها تأييد من جعلوا منها قوة لا يستهان بها؟ يقول بايوكي إن السيادة والتعامل مع المؤسسات أمر لا غنى عنه. "بدون السيادة، بدون حكم الشعب الديمقراطية تمرين فارغ". لكنه يعترف بالتناقض بين المكونين. بالذات وأن مؤسسات الدولة في وضعها الحالي مصممة للحد من حكم الناس. يعتبر بايوكي أن فرض الإرادة الديمقراطية لل نحن لابد وأن تعني عملاً متواصلاً لإعادة صياغة مؤسسات الدولة من أجل تجاوزها. بل إنه يؤكد على أن مفهوم السيادة الشعبية في مقابل الديمقراطية الليبرالية، لابد وأن يتجاوز الدولة القومية والملكية الخاصة. ويحيلنا الكتاب هنا إلى حركة مزارعون بلا أرض في أمريكا اللاتينية وإلى المقاومة عبر الحدود التي واجهتها. هي معركة تخاض عبر الحدود ضد المزارعين وكي تقاوم ديمقراطيا بفعالية، لابد وأن تتجاوز المقاومة هي الأخرى حدود الدولة القومية.
***
أسئلة الديمقراطية يجب أن تتغير. فبدلاً من الاقتصار على قواعد الديمقراطية الشكلية (هل هناك انتخابات حرة؟.. إلخ)، في ظل ديمقراطية السيادة الشعبية يجب أن تمتد الأسئلة للصلب: من هم الشعب؟ وهل يحكم الشعب؟ هل أصحاب الشأن كلهم يشاركون في اتخاذ القرارات التي تهمهم؟ وكمشروع سياسي تحويلي فإنها تدعو لإعادة اختراع الديمقراطية التي تضع المضطهدين في مركز الـ "نحن" التي تجدد نفسها دون توقف، كي تمكن نفسها من اتخاذ القرارات التي تخص شروط حياتها كجماعة. يعتبر الكاتب أن نقطة الانطلاق الحقيقية من أجل الديمقراطية هي الحركات القاعدية، كتلك التي تحذر منها الإيكونوميست. "وحتى لو أننا غير قادرين على تقديم صيغة مؤسسية محددة الآن لتفعيل السيادة الشعبية عالمياً، فإن ذلك لا يعني التخلي عنها كإطار وإنما الطريق يجب أن يصنع بالمسير".