الحل.. دعم العولمة
ماجدة شاهين
آخر تحديث:
الأحد 19 فبراير 2023 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
كم يبدو الأمر غريبا. بعد أن كانت الدول النامية معادية للعولمة، أصبحت اليوم تطالب بمزيد من العولمة واحترام قواعدها وآلياتها. ففى محاولة جادة لمنظمة التجارة العالمية لالتقاط أنفاسها والتى قد تكون الأخيرة، أصدرت مؤخرا تقريرها لعام 2022 بعنوان «تغير المناخ والتجارة الدولية» سعيا لمواكبة التطورات الدولية والإعلان عن دورها فى التغييرات المناخية المرتقبة. ومن خلال هذا التقرير تسعى المنظمة للتسبيح بمزايا العولمة والقواعد المتفق عليها فى نطاق المبادلات التجارية باعتبارها الآلية الفعالة والقادرة على التغلب على معوقات تغير المناخ.
لعل تكون هذه من المرات القليلة التى تعترف بها المنظمة منذ نشأتها فى 1995 بأهمية الدول النامية وضرورة تقديم كل العون لها، مشيرة إلى أن هذه الدول لن تستطيع المساهمة فى خفض الانبعاثات الكربونية إن لم تتلق الدعم الكافى سواء ماليا أو تكنولوجيا من الدول المتقدمة. وفى هذا السياق تعيد منظمة التجارة العالمية – فى محاولة منها للاندماج مع التوافق الدولى – تأكيد مبدأ اتفاق باريس لعام 2015 (مؤتمر الأطراف الـ21) بالنسبة للمسئولية المشتركة ولكن المتباينة فيما يعنى تحميل الدول المتقدمة المسئولية الأكبر باعتبار ثوراتها الصناعية كانت السبب الرئيسى فى الأزمة المناخية. ومن هذا المنطلق طالبت منظمة التجارة العالمية هى الأخرى بضرورة إنفاذ الدول المتقدمة لالتزاماتها وتعهداتها إزاء التمويل والإمداد بالتكنولوجيا المتقدمة والنظيفة وتيسير انتقالها لمساعدة الدول النامية فى مجالات تخفيف الانبعاثات والتأقلم مع آثار التغيرات المناخية. وأعادت تأكيد ما سبق أن اتُفق عليه فى مؤتمر الأطراف المتعاقدة لعام 2025 على مبلغ وقدره 100 مليار دولار سنويًّا والذى لم يتم الالتزام به. وفى مؤتمر شرم الشيخ طالب سكرتير عام الأمم المتحدة بمضاعفة هذا المبلغ. وهيهات لم يصغ له أحد.
اختلفت لغة تقرير منظمة التجارة العالمية عن المألوف والمعتاد بمطالبة الدول النامية بالانفتاح والإصلاح إلى التأكيد على أن مساعدة الدول النامية ليس من قبيل الصدقة ولكن المصلحة المشتركة. فإن الدول المتقدمة لها مصلحة مباشرة فى تقديم كل الدعم للدول النامية لتعزيز دورها فى التحول الأخضر والمساهمة الإيجابية فى التغيرات المناخية والتحول إلى التكنولوجيا منخفضة الانبعاثات الكربونية، حيث أن أزمة المناخ تتطلب تضافر الجهود ولن يتم التصدى لها من خلال محاولات بائسة للدول المتقدمة لخفض الانبعاثات لديها أو إلزام الدول النامية بما لا تستطيع القيام به وحدها.
كما نوه التقرير على أنه لم يعد هناك وقت للمقايضات سواء بالنسبة للدول المتقدمة أو النامية من حيث الإجراءات الانفرادية أو إرجاء التحول الأخضر بالدول النامية بحجة أن النمو والتنمية يأتيان أولا، مثال توجه الصين والهند وغيرهما إلى مفاضلة التنمية على حساب حماية البيئة. فإذا كانت مثل هذه المقايضات قد تفيد البعض فى المدى القصير، فإنه فى المدى الطويل تعود بالضرر على الجميع. فإن الوضع على كوكبنا يتدهور بمعدلات غير مسبوقة. فإن خطر التقاعس عن العمل المشترك فى مجالات تغير المناخ سيؤدى إلى تفاقم هذا التدهور ويجعل كوكبنا غير مؤهل للسكن للغنى والفقير على حد سواء. ويكفى هنا الإشارة إلى الكوارث المناخية فى العام الماضى فى القارات الخمس مع أضرار بلغ حجمها 165 مليار دولار فى الولايات المتحدة وحدها. ولكن رأينا أيضًا فى العام الماضى كيف أن المؤتمر السابع والعشرين للأطراف المتعاقدة فى شرم الشيخ أسفر عن توفر الإرادة السياسية وإعادة إحياء توافق الآراء وضرورة إنشاء صندوق خسائر وأضرار للدول الأكثر ضعفا.
• •
فقد تتذكر عزيزى القارئ أننى سبق أن أثرت على هذه الصفحات التناحر بين الدول فى مجال العمل المناخى وانفراد حكومات الدول المتقدمة بفرض رسوم إضافية على وارداتها بحجة خفض الانبعاثات الكربونية الآتية من الخارج أو منح دعم لصادراتها لتمكينها من المنافسة. ومثل هذه الإجراءات ضد قواعد منظمة التجارة العالمية والتوافق المعمول به فى إطارها. فهذه الإجراءات يجب أن تكون محلا للتفاوض بين الدول توصلا إلى تسوية يرتضى بها الجميع داخل المنظمة، وهو ما أصبحت الدول المتقدمة تضرب بمثل هذه المشاورات المسبقة عرض الحائط.
تعى منظمة التجارة العالمية هذا التراجع وتشير فى تقريرها إلى أن التعاون التجارى ودعم العولمة وسلاسل التوريد هى المفتاح لدفع التحول الأخضر على المستوى العالمى وليس من خلال الإجراءات الأحادية التى تتخذها الدول الأوروبية والولايات المتحدة واليابان، بما يبدو أن عصر العولمة قد مضى والتى كانت تدفع به الدول المتقدمة لحث الدول النامية على الاندماج فى التجارة الدولية. وانتقدت منظمة التجارة العالمية هذا التوجه وتقديم الإدارة الأمريكية الدعم غير المصرح به لشركاتها ورفع شعار شراء البضائع الأمريكية أولا بعد أن كانت السوق الأكثر انفتاحًا فى العالم.
وبعد أن كانت منظمة التجارة العالمية قوة ضاربة ورمز العولمة والالتزام، بما كانت تمتلكه من جهاز قوى لفض المنازعات وقوة إلزامية لفرض العقوبات على من يستخف بالقواعد المتفق عليها، أصبحت المنظمة قوة نائمة لا حول لها ولا قوة ضد ما تتخذه الدول المتقدمة من إجراءات منفردة. فإن عدم احترام التعددية يمثل عقبة رئيسية أمام التوافق الدولى والعمل المشترك. وإن كان من الطبيعى ضرورة تعزيز نظام التجارة الدولية فى ظل اقتصاد عالمى يمر بمرحلة من الكساد التضخمى، ويلزم الدول كبيرها وصغيرها بالتراجع عن الدعم المشوه للتجارة والقيود التجارية المتزايدة والإجراءات المنفردة، فإن هذا لن يتم إلاّ فى ظل احترام قواعد منظمة التجارة العالمية، التى تمثل أحد المظاهر الأساسية للعولمة. فإن قوتها تعنى تماسك العولمة وتشابك اقتصاديات دول العالم، وسلبيتها تمثل ضعف نظام العولمة وتدهوره لمأساة الجميع معا.
وللأسف حتى الأمم المتحدة التى كانت تمثل مركزا للتعددية وإدارة التوترات الجيوسياسية وتحديات التنمية المستدامة، فقد افتقدت الكثير من زخمها وقوتها كما افتقدت الالتزام الأخلاقى التى كانت تلوح به بين الحين والآخر.
• • •
إن عالمنا اليوم فى معاناة كبيرة، بدءا من التراجع فى معدلات النمو الاقتصادى العالمى إلى التغيرات المناخية الفتاكة والتوترات الجيوسياسية إلى أزمة تكلفة المعيشة وصعوبة معالجة هذه القضايا فى ظل انفرادية القرارات التى تتخذها الدول فى وقت نحن فى حاجة إلى مزيد من التعاون الدولى على جبهات متعددة. فإننا نواجه شبح حرب باردة جديدة قد تؤدى إلى تجزئة العالم إلى تكتلات اقتصادية متنافسة ومتضاربة. فإن كان يحق لنا أن نعترف بأن التكامل الاقتصادى الذى حققناه فى التسعينيات وحتى اندلاع وباء الكورونا قد ساهم فى مضاعفة حجم الاقتصاد العالمى ثلاث مرات تقريبًا، وتم انتشال ما يقرب من 1.5 مليار شخص من الفقر المدقع، فإننا نواجه اليوم تبديدا لهذه الإنجازات والمشاركة التى أنعمنا بها منذ نهاية الحرب الباردة.
وعلى الرغم من الانتقادات التى طالما وجهتها الدول النامية إلى العولمة باعتبارها غير ديمقراطية وتعمل فى صالح القوى والشركات عبر الوطنية أكثر من الشعوب النامية واحتياجاتها، فإن البديل للعولمة سيكون أكثر ضررا بالدول النامية وشعوبها لا سيما لو فقدت منظمة التجارة العالمية وهى المعقل الأخير للعولمة قدرتها على وضع المعايير الدولية الملزمة وإعلاء النظام القواعدى على المستوى الدولى عن الإجراءات المنفردة.
ويتجه البعض إلى إعلاء ظاهرة التعاون الإقليمى تعويضا عن تراجع العولمة. ويرى هؤلاء أن العالم لم يكن يومًا سوقًا متكاملة واحدة. وفى الواقع، مع التغييرات المناخية والانبعاثات الكربونية المتزايدة للتجارة عن بعد، ستتجه الدول حتما إلى المزيد من الإقليمية، وتوجيه سلاسل التوريد عبر البلدان المجاورة.
بيد أن مقاومة التغييرات المناخية سيكون أكثر صعوبة فى ظل اندثار العولمة وتوجه العالم إلى تكتلات إقليمية سيعيق العمل الجماعى ويضاعف التنافسية فى غير صالح التكيف مع التغييرات المناخية. وتتطلب مكافحة تغير المناخ استمرار العولمة وليس التجزئة الإقليمية. وستدرك الإنسانية فى النهاية أنها بحاجة إلى تحسين العولمة، وليس تقليل العولمة، وكلما كان ذلك أسرع كان أفضل.