لجنة الدستور وأزمة التوافق
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 20 مارس 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
ظهر يوم السبت الماضى، تعرض مشروع التوافق بين القوى السياسية لانتكاسة، على الأقل فيما يتعلق بكتابة دستور جديد لمصر تشارك فيه كل قوى المجتمع. الانتكاسة جاءت حينما ضاقت الأحزاب الكبرى فى البرلمان بالتشاور والحوار، وسارعت خلال دقائق وجيزة بحسم موضوع تشكيل لجنة كتابة الدستور استنادا إلى الأغلبية التى تحتكم إليها، فقررت أن يكون نصف أعضاء اللجنة من أعضاء البرلمان والنصف الآخر من خارجه. صحيح أنه يمكن القول إن قرار تشكيل اللجنة قد تم التوصل إليه بطريقة ديمقراطية، وفى انتخابات سليمة وقانونية تعبر عن حق الأغلبية فى أن تفرض رأيها متى شاءت. وهذا صحيح فى الوضع العادى. ولكن ما حدث بالنسبة لتشكيل لجنة الدستور لا ينطبق عليه هذا الوصف لأنه انطوى على مناورة لم تكن مطلوبة، ولأنه يتعلق بأكثر موضوع مطروح على الساحة مطلوب فيه التوافق الآن، وهو كتابة الدستور وتشكيل اللجنة المعنية بذلك.
أما عن المناورة التى لم تكن مطلوبة، فقد تمثلت فى أن حزب الأغلبية كان قد أعلن قبل أسبوعين عن موقفه بأن تكون نسبة المشاركين فى اللجنة من أعضاء البرلمان أربعين فى المائة فقط، وتصورنا أن الأمر فيه مجال للتفكير والتشاور والنقاش من أجل التوصل إلى التوافق المطلوب، فإذا برئيس الهيئة البرلمانية للحزب يعلن قبل التصويت بدقائق زيادة هذه النسبة إلى خمسين فى المائة، وإذا بالموضوع ينتهى باتفاق الحزبين الكبيرين، ولا كأن هناك أحزاب أخرى، ولا آراء مختلفة، ولا الحد الأدنى من الاكتراث بأن يكون فى الأمر تشاور أو نقاش من أى نوع. أعلم جيدا أن هذه الأحزاب الأخرى لا تمثل إلا أقلية، وأن رأيها قد لا يؤثر فى النتيجة النهائية، ولكن كيف يمكن الحديث عن توافق إذا كانت الأمور سوف تحسم دون نقاش وتبادل لوجهات النظر؟ هذا مؤشر خطير على أن التوافق سوف يكون شعارا نرفعه فى المسائل الثانوية، أما فى المواضيع المهمة فإن الاعتماد على الأغلبية المضمونة سيكون كافيا لوأد أى جدل أو حوار حقيقى أو محاولة لتقريب وجهات النظر. التوافق لا يعنى تخلى الأغلبية عن رأيها أو رضوخها لرأى الأقلية، ولكنه يعنى على الاقل التشاور قبل اتخاذ القرارات الكبرى، ومحاولة تقريب وجهات النظر، والتنازل عن بعض المطالب حرصا على وحدة الصف، وكل هذا لم يحدث يوم السبت.
قد يبدو الفارق بين أربعين وخمسين فى المائة بسيطا، وغير مستحق لكل هذا الانفعال. ولكن الواقع أن المسألة لا تتعلق فقط بالأرقام وإنما بمنطق تشكيل لجنة إعداد الدستور وعلاقته بالبرلمان. فهذا البرلمان قد تم انتخابه من الناس لكى يقوم بدوره التشريعى والرقابى ولكى يتولى اختيار أعضاء لجنة الدستور لا لكى يستأثر لنفسه بنصف عضوية هذه اللجنة. والنتيجة أن مصر كلها ــ بكل ما فيها من معرفة قانونية ودستورية وخبرات أكاديمية وقيادات نقابية وجمعيات أهلية ورجال قضاء وعمل عام ومفكرين وكتاب، رجالا ونساء، مسلمين ومسيحيين، شبابا وكهولا ــ كل هؤلاء سوف يمثلهم فى لجنة كتابة الدستور خمسون شخصا يمثلون نصف اللجنة، بينما أعضاء البرلمان وحدهم قد حجزوا لأنفسهم النصف الباقى. معنى هذا أننا نضيع على أنفسنا الفرصة التاريخية لكى تكون لجنة كتابة الدستور معبرة عن التنوع والثراء والخبرات والكفاءات التى يتكون منها المجتمع المصرى لأننا قررنا أن نحصر انفسنا فى هذه المساحة الضيقة حرصا على الأغلبية الحزبية وخوفا من فقدان السيطرة التى تأتى معها. إن مصر تستحق دستورا يليق بها وبتاريخها القانونى وبمكانتها فى الوطن العربى، وتستحق أن يكتب دستورها أفضل من فيها وأكثرهم خبرة، ولكن أعضاء البرلمان قرروا أن يتصدوا بأنفسهم لمهمة ليسوا بالضرورة أكفأ من يقوم بها.
من جهة أخرى فقد تجاهلت الأغلبية البرلمانية يوم السبت الماضى، للأسف الشديد، كل المقترحات التى تقدمت بها أحزاب الأقلية حول ضمان حد أدنى لتمثيل المرأة ولتمثيل المسيحيين ولتمثيل باقى فئات المجتمع وتياراته، الأمر الذى ينبئ بأن تشكيل لجنة كتابة الدستور سوف يكون فيه ذات العيب الذى أصاب تشكيل البرلمان نفسه، حيث لا يتجاوز فيه تمثيل كل من النساء والمسيحيين فى مصر اثنين فى المائة، وهذا وضع معيب بكل المقاييس. ومع ذلك فإن كانت هذه نتيجة الانتخابات، فإن الفرصة على الأقل كانت متاحة فى لجنة كتابة الدستور لتصحيح هذا الوضع وللتعبير عن رؤية أكثر اتساعا للمجتمع المصرى ولتجاوز الخطوط الحزبية واضحة المعالم وعن توافق مطلوب لكتابة الدستور ومطلوب لبناء وطن لكل المصريين أيا كانت دياناتهم ومعتقداتهم ومصالحهم وانتماءاتهم الحزبية. أما أن يعيد البرلمان تكرار نفسه فى لجنة مصغرة يحكمها الانتماء الحزبى وحده، فهذه خسارة كبيرة وفرصة لن تعوض.
مشروع التوافق تعثر يوم السبت، وسوف تلقى تجربة هذا اليوم بظلالها على المرحلة القادمة بأكملها، وعلى العديد من القرارات المصيرية التى ينتظر أن يأخذها البرلمان ولجنة تشكيل الدستور. فى هذه الظروف فإن القوى السياسية والاجتماعية التى يتم استبعادها من المشاركة فى صنع القرار سوف يكون عليها أن تحسم أمرها وبسرعة، فإما أن تكون فاعلة ومشاركة ــ فى حدود نصيبها العادل فى المجتمع ــ وإلا فلن تجد أمامها إلا الانسحاب من الساحة التى لا تعترف بها ولا تعطيها فرصة المشاركة الحقيقية والمتكافئة فى صنع القرار.