تحديات أوروبية
ناصيف حتى
آخر تحديث:
الإثنين 19 مارس 2018 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
تبدو الأجندة الأوروبية مثقلة بالتحديات المختلفة. تحديات تغذى بعضها البعض الآخر، فيما تزداد الانتقادات لمؤسسات الاتحاد الأوروبى فى مسائل تحديد الأولويات والأدوار وخدمة الأهداف ومستوى الأداء من أطراف سياسية مختلفة فى البيت الأوروبى. من أهم مظاهر هذه التحديات التى تدل على حالة القلق والضياع وفقدان البوصلة عند الكثيرين انتشار الظاهرة الشعبوية وحركات اليمين المتشدد التى تقوم على الانطواء والتقوقع وعلى إحياء هويات ما دون الوطنية التى تهدد بأهدافها وحدة الدولة القائمة.
نرى ذلك بشكل خاص فى أوروبا الوسطى وفى شرق أوروبا كما نراها فى الدول «القديمة» فى الاتحاد الأوروبى، مثل فرنسا وألمانيا وبلجيكا والدنمارك وإسبانيا وإيطاليا، كما دلت الانتخابات النيابية الأخيرة التى جاءت بحركة النجوم الخمس ورابطة الشمال، وهى حركات مشككة بالاتحاد الأوروبى وأهميته. نرى أيضا بعد البريكست، ورغم خاصية الانتماء البريطانى لأوروبا، حيث إن بريطانيا أكثر أطلسية فى انتمائها منه أوروبية، قيام دعوات لإنعاش الحدود الوطنية فى الاقتصاد على حساب السوق الواحدة. ورغم أن جميع هذه الحركات والدعوات لم تنجح بعد فى تحقيق أهدافها، كما رأينا فى كتالونيا، فإنها بمثابة جرس إنذار لما تتعرض له عملية البناء الأوروبى من تحديات جمة، مع التذكير بأن هذه الدعوات الانفصالية أو المناهضة للتعاون الأوروبى تعبر عن مخاوف وقلق مشروع ولكنها لا تحمل أجوبة فعلية وعملية للتحديات التى تواجهها أوروبا.
من هذه التحديات أن الاتحاد الأوروبى اليوم يدفع الثمن الباهظ لعملية التوسع السريع الذى اضطر أن يقوم به بعد سقوط الاتحاد السوفيتى وانهيار منظومة نفوذه لضم الدول الأوروبية المولودة من جديد إلى «البيت الأوروبى».
فاعتبارات الجغرافيا الاستراتيجية تغلبت على اعتبارات الجغرافيا الاقتصادية حينذاك ليتغلب خيار توسيع الاتحاد على ما يعرف بخيار «التعميق» أو «تعزيز الاندماج» فى البيت الأوروبى القائم قبل قبول أعضاء آخرين.
فى خضم الأزمة الاقتصادية الأوروبية التى من أسبابها أيضا القدرة التنافسية من حيث تكلفة الانتاج المنخفضة عند الأعضاء الجدد فى الاتحاد على حساب الأعضاء القدماء، وما لذلك من تداعيات على سوق العمل بشكل خاص وارتفاع معدل البطالة فى الدول «القديمة»، فإن الحرب التجارية التى يبشر بها الرئيس الأمريكى من خلال إعلانه عن فرض رسوم جمركية على بعض الواردات الأوروبية سيزيد دون شك من التأزم فى العلاقات بين الحلفاء الغربيين.
هذا، ويحيط بأوروبا حزام توتر وأزمات وحروب على الضفتين الشرقية والجنوبية للمتوسط فى عمقهما العربى والإفريقى، مع ما لذلك من تداعيات أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية. أبرز مظاهر هذه التداعيات أن مشكلة الهجرة اللا شرعية وتدفق اللاجئين صارت مصدر القلق الأول فى أوروبا كما تدل على ذلك استفتاءات تقوم بها مؤسسات أوروبية تليها مشكلة الإرهاب ثم الأزمة الاقتصادية. ولا بد من التذكير بأن قضية النزوح تشكل أحد المسببات الرئيسية فى صعود التيارات الراديكالية والشعبوية فى أوروبا، إلى جانب، دون شك، قضية الحركات الإرهابية الجهادية.
فى خضم ذلك كله يعمل الاتحاد الأوروبى على بلورة استراتيجية جديدة للشراكة والتعاون مع إفريقيا، من أهم أهدافها الحد من الهجرة الإفريقية باتجاه أوروبا، وذلك عبر بلورة شراكة لبناء التنمية وبالتالى الاستقرار فى الدول الإفريقية، كأفضل وسيلة لإنهاء مشكلة الهجرة اللا شرعية.
***
مصدر آخر للقلق الأوروبى يكمن فى التوتر الشديد والمتزايد فى الشرق الأوسط والخوف من تداعيات قرار الرئيس الأمريكى بالخروج من الاتفاق النووى مع إيران (ما يعرف باتفاق ٥+١) إذا لم يتم بلورة ملحق لهذا الاتفاق فى منتصف شهر مايو القادم، موعد انتهاء الانذار الأمريكى، يجيب على المطالب الأمريكية، وهو ما ترفضه إيران فى المبدأ. يحاول الشركاء الأوروبيون الثلاثة فى الاتفاق النووى، فرنسا وبريطانيا وألمانيا، بلورة حل وسط لا يمس بالاتفاق من جهة، ولكنه يقدم مقترحا لعقوبات على إيران إذا لم توقف أنشطتها فى تطوير الصواريخ الباليستية من جهة أخرى، وذلك تلافيا للدخول فى المجهول الذى سينشأ عن التهديد الأمريكى وما قد يكون لذلك من تداعيات على أمن أوروبا فيما لو ازدادت التوترات فى الشرق الأوسط حدة واشتعالا فى منتصف مايو القادم.
حروب فى جوار أوروبا، الشرق أوسطى والإفريقى، تحمل تداعيات خطيرة على أوروبا، دولا ومجتمعات، فيما لو استمرت، وازدياد الأزمات الاقتصادية فى الاتحاد الأوروبى حدة مع ما لها من تداعيات خطيرة على البيت الأوروبى من الداخل، أمام ذلك كله، تبدو أوروبا أمام مفترق طرق حامل لسيناريوهات خمسة كما تقول المفوضية الأوروبية، وهى:
أولا: سيناريو الاستمرار عبر استراتيجية احتواء الخلافات.
ثانيا: سيناريو السوق الواحدة التى تقوم على تعميق بعض المجالات ضمن هذا الإطار فقط.
ثالثا: السيناريو الثالث يمكن وصفه بسيناريو السرعات المختلفة، أى مجموعة الدول فى البيت الأوروبى التى تريد أن تفعل أكثر.
رابعا: أما السيناريو الرابع فيقوم على تخفيض الأهداف وزيادة الفاعلية.
خامسا: السيناريو الخامس، وهو السيناريو الأكثر طموحا، فقوامه الدفع إلى الأمام بشكل مستمر رغم الصعوبات والمعوقات فى عمليتى الاندماج والتوسع. وهو كما أشرنا سيناريو يلاقى الكثير من التحديات والحواجز فى الفترة الراهنة.
***
الاتحاد الأوروبى هو دون شك النموذج الرائد والأنجح فى عملية البناء والتعاون الإقليمى فى العالم، فى وقت صارت فيه جميع الدول فى العالم بحاجة لتعزيز أمنها فى الأوجه المختلفة للأمن، من سياسى واقتصادى واجتماعى وعسكرى، من خلال الانضمام إلى عائلة إقليمية تقوم على أعلى درجات التكامل والتعاون بين أبنائها من أجل مقاربة التداعيات المختلفة للعولمة بشكل أفضل خدمة لدولها ومجتمعاتها.
لعل الدروس التى ستخرج بها أوروبا من أزماتها تكون مفيدة لكل المجموعات الإقليمية فى العالم.