دليلها العلم ورائدها «الابتكار»
نبيل الهادي
آخر تحديث:
الخميس 19 مارس 2020 - 11:00 م
بتوقيت القاهرة
فى نقاش رسمى تعجبت من أن المقررات التعليمية التى نقوم بتدريسها لا تُطرح من خلال رؤية أكبر تضع فى جوهرها قضية مثل العمران غير الرسمى من ضمن قضايا ملحة أخرى.. وتعرضت لانتقاد فورى خاصة بموضوع الرؤية ومدى ضرورتها.. للأسف الشديد لم يهتم الكثيرون بالعمران غير الرسمى ولم يبدأ بعضهم فى تناوله إلا مع وضوح بدأ اهتمام الأكاديميين فى الغرب بهذا الموضوع.. وينطبق ذلك على العديد من الموضوعات والقضايا والتحديات التى تواجهنا.. ما يضعنا فى الغالب فى صورة التابعين لما ينتجه الدارسون والخبراء الأجانب، وليس بالضرورة أن يمنعا ذلك ــ بالرغم من جودته ــ من تبنى وجهات نظر أخرى مبنية على ملاحظاتنا نحن وربما رؤى أولية.
فى أحد المؤتمرات عن العمران فى القاهرة سألت خبيرا أجنبيا بارزا وكاتبا لواحد من أهم الكتب عن القاهرة فى العقد الحالى عن مشكلة الاستدامة فى المناطق غير الرسمية، فأجابنى بأنه لا يمكننى طرح هذا السؤال. قدرت أنه يفترض أن فى غياب حلول واقعية ومتاحة لشريحة كبيرة من المواطنين لا يمكن أن نسأل أسئلة تبدو نظرية ولا محل لها الآن. بالطبع لم أوافق على الرد وما زلت أرى أن الاستدامة تطرح تحديا كبيرا لنوعية الحياة للجميع سواء منهم من سكن المناطق الرسمية أو هؤلاء الساكنون فى المناطق التى نطلق عليها غير رسمية.
لوقت طويل رأيت أن الاتجاه الذى يحتفل بالعمران غير الرسمى كنتاج شعبى تمكن بذكاء من التعامل مع مشاكله وأوجد لها الحلول فى غياب دور فاعل للدولة يستطيع تقديم أكثر من أن يحاول تحسين الصورة القائمة، كما لا أعتقد أنه يقدم حلولا للتحديات الكبرى التى تواجه الساكنين، وتلك التى تواجه المجتمع والمدينة فى مصر ككل. كما أتصور أن التوجهات القائمة على هدم البيوت ونقل بعض السكان أو تجميل بعض من تلك المناطق من خلال الدهانات ورصف الشوارع قادرة أيضا على التعامل مع تلك المشكلة بفاعلية.
***
إذًا أين الحل لمشكلة المناطق غير الرسمية والتى يكاد يبلغ ساكنوها نصف سكان مصر أو أكثر طبقا لبعض التقديرات؟ وهل يمكن أن نصل لحلول حقيقية لسكان تلك المناطق وأيضا المناطق الرسمية فى غياب مواجهة قضايا وجودية مثل إيجاد منظومة مياه مستدامة تشمل ليس فقط مياه شرب ذات جودة عالية، ولكن أيضا التعامل مع مياه الصرف الصحى بصورة ملائمة وأكثر استدامة بما يحفظ للسكان الحد الأدنى المقبول من أسس الحياة الصحية. وهل يمكن أن نتجاهل التحديات الخاصة بنوعية الهواء الذى نتنفسه سواء فى الشوارع الرئيسية أو فى بيوتنا حتى وإن كانت مزودة بماكينات تكييف الهواء، وما بالك بتلك التى لا تستطيع أن تجد لها منفذا مقبولا لهواء متجدد كما فى جزء كبير من المناطق غير الرسمية. وهل يمكن إيجاد تلك الحلول بدون بحث جاد وحقيقى معتمد على بيانات دقيقة وهل بمقدورنا أن ننتظر سنوات طويلة حتى ننتهى من تلك الدراسات المطلوبة واختبار مدى جدواها؟
يذكرنا منخفض التنين وتبعاته الكبيرة على مختلف مدن مصر بأهمية العلم. ولعل من المحاسن الرئيسية التى واكبته أن المسئولين استمعوا للعلم. ربما كان بإمكاننا أخذ خطوات أخرى مبنية على العلم للتعامل مع مشكلة الأمطار المتكررة، وإن بشدة متفاوتة، عبر السنين. ونتمنى أن يكون هذا الحل طريقة أخرى غير استدعاء المطالبات بعمل شبكة لصرف مياه الأمطار المكلفة للغاية أو تعطيل العمل والدراسة ونشر عربات شفط المياه وقطع المياه.
العلم متطور وليس جامدا وأيضا يحتمل آراء مختلفة ولذلك يجب أن نكون على تواصل مع أحدث ما هو متاح من علم. مثلا فى هذا النطاق الخاص بالتعامل مع الأمطار هناك تحول بدأ منذ عدة سنوات لاستخدام ما يسمونه «حلول مرتكزة على الطبيعة» وهى حلول تستخدم موارد طبيعية وتبدوا للوهلة الأولى وكأنها تدخلات بسيطة وغير معقدة ولكن فى الحقيقة هذا مقصود ومدعوم من علوم متعددة وبعضها يحتاج نماذج حاسوبية معقدة ودراسات وبيانات كثيرة ومدققة. نتيجة تلك الدراسات أنها اقترحت حلولا لا مركزية لا تتطلب شبكات للصرف وتخلق ما يسمونه حدائق الأمطار تكون قادرة على استيعاب المياه الفائضة وقت المطر وربما تخزينها والاستفادة من بعضها لاحقا. وتتطلب تلك الحلول عادة عمل مشروعات صغيرة رائدة يتم اختبار دقة الحل واستجابته للتحديات الواقعية ثم يتم تطويرها لاحقا. ولا أشك فى أننا نستطيع أن نبتكر حلولنا والتى بدونها سيكون من الصعوبة بمكان تخيل حياتنا.
***
يتطلب هذا النوع من البحث والتجريب والابتكار قبل كل شيء عقلية نقدية وجرأة لا تستخف بالعقبات، بل تواجها وتتعامل معها، واحتفال وتشجيع ومكافأة لمن يقومون بها. وبالرغم من أن التفكير الحر والراشد والنقدى جوهرى لتحقيق ذلك إلا أنه يصطدم بواقعنا وما يبدوا أحيانا وكأنها قيود عملية فى مؤسساتنا التى من واجبها الأول البحث وإنتاج العلوم والمعارف. غالبا ما أتساءل، وربما غيرى الكثيرون، عن الوقت الذى يكون لدينا فيه تلك البيئة التى تشجع على المبادرة وتكافئها ولا تعاقب أو تحجر على الاجتهادات والتجارب، وتسمح بنقاش حر وعلنى يتم فيه تبادل الأفكار بدون قلق أو مراعاة لغضب هذا أو ذاك.
ساعدت الابتكارات على قيام الحضارة الإنسانية منذ مهدها؛ مثل ابتكار رى الحياض ثم الشادوف ثم الساقية وغيرها.. وعندما تعاملت الابتكارات المؤسسة على العلوم التجريبية مع الطاقة والمعادن أنتجت ثورة صناعية، ثم تطورت المعارف وانفجرت وأصبحت الابتكارات وأصحابها هم رواد الاقتصاد فى العالم. فهل نستطيع أن نحلم بمجتمع متطور يعيش أهله فى كرامة ويستخدمون مواردهم المحلية بحكمة ووعى بإرشاد علمى نشارك فى إنتاجه وابتكارات تدفع بنا للأمام قليلا.
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة