نهاية وبداية
صلاح ابو الفضل
آخر تحديث:
الثلاثاء 19 أبريل 2016 - 9:50 م
بتوقيت القاهرة
برحيل محمد حسنين هيكل تكون حقبة كاملة فى حياة المنطقة والدولة المصرية الحديثة تلك التى بدأت عند منتصف القرن السابق قد انتهت، وتبدأ معها حقبة جديدة بخصائص وتحديات مختلفة. والمشهد العام الذى غادره هيكل يشى بأن الأوضاع فى مصر حبلى بتغيرات هائلة، وأن رؤى جديدة على وشك أن تتخلق وتجرف فى طريقها رؤى من بقايا عهد يتلاشى.
كان المشهد عند منتصف القرن الماضى يشبه المشهد الحالى، حكومات تتعاقب بسرعة كل بضعة أشهر. وفشل متكرر للملك والأحزاب فى إدارة شئون البلاد تبدو فى الحالة المتردية للاقتصاد، وغليان مكتوم فى الشارع وغياب فى الرؤية حول ما يمكن عمله، وانتشار لمظاهر الفوضى وصل مداه فى حريق القاهرة. كانت مصر تعانى من دوار عنيف فى أعقاب الحرب العالمية الثانية التى خرجت بريطانيا منها منتصرة، ورغم الدور المحورى الذى لعبته بموقعها الجغرافى واللوجيستى لم تقدر بريطانيا هذا الدور، ووجهت إليها وإلى المنطقة كلها ضربة قاصمة بالتخلى عن فلسطين لإسرائيل. وبعد صدمة حرب ٤٨ حاولت مصر تعديل معاهدة 36 لكنها اصطدمت بصلف بريطانيا المنتصرة فلم تجد أمامها إلا أن تحاول تجاوز حقيقة الاحتلال وفرض واقع جديد بإلغاء المعاهدة. لكن ذلك لم يكن ضمن سياسة مدروسة وفيما عدا بعض العمليات الفدائية فى منطقة القناة لم تكن لدى مصر خطط واضحة للنهوض بالبلاد أو توجه مستقبلى واضح.
وفى تلك الليلة الصيفية من 23 يوليو 52 تغير المشهد برمته وبدأت حقبة جديدة ارتفعت فيها آمال المصريين إلى عنان السماء. فى شهور قليلة تغير وجه الحياة على أرض الوادى. طبقت سياسات للإصلاح الزراعى، وارتفعت نداءات العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، ونودى بألا سيطرة لرأس المال على الحكم، خرج المحتل بعد عامين ربما بثمن باهظ وهو التخلى عن السودان. رفضت مصر الدخول فى سياسة الأحلاف وأخذت خطا مستقلا، وارتفع نداء القومية العربية. ساندت حركات التحرر وكفاح الجزائر ودافعت عن الشعب الفلسطينى ووقفت ضد سياسات الاحتواء والهيمنة الغربية.
ثم أرسيت قاعدة للصناعة، وبدأ مشروع نهضة مصرية خالصة سعت لبناء الانسان والمجتمع. غنى عبدالحليم حافظ للمدائن والكنائس والمزارع والتصنيع الثقيل، والتحم المصريون لبناء أنفسهم والسد العالى. لكن مسيرتهم تعثرت وانزلقت بهم الأقدام عدة مرات. غاصوا فى مستنقعات كثيرة من الوهم وسوء التدبير وتكالبت عليهم مؤامرات عربية وغربية كثيرة، وظهرت فيهم نقائص وأمراض اجتماعية مزمنة كالتواكل والإهمال فاقت كل المؤامرات. ورغم انتصارات كثيرة انكسر الحلم القصير بعد 18 عاما، تماما مثلما انكسر حلم أجمل بعد 18 يوما. وسقط عبدالناصر صريع المؤامرات والأحلام الكبيرة وتراجعت مصر الوطن والأمل وسقطت فى براثن الغرب، باعها نخاسون من أبنائها فى سوق الرقيق الدولى ومدت يدها بالسؤال لمن كانت لها الأيادى عليهم فى زمن قريب، وتحولت الهامة إلى مهانة، ووصلت مصر عند مداخل القرن الواحد والعشرين والفساد قد استشرى مع الفقر فى الناس والنفوس وفى أنحاء الوطن حتى قاربت الحقبة على النهاية بمشهد الانفجار الشعبى الهائل فى 25 يناير 2011.
***
خلال هذه الحقبة كان هيكل الصوت المعبر الذى رافق المسيرة فى مراحل الصعود ومراحل المحنة ثم أوقات التراجع والاضمحلال. واتجه بعد خروجه من دائرة السلطة إلى التعبير عن مسيرة المشروع المصرى والعربى فى مواجهة المتغيرات العالمية. وثق تاريخ المرحلة منذ البدايات وتتبع اسباب الصعود والهبوط، حاول جاهدا أن يلفت انظار القارئ ثم المشاهد المصرى والعربى إلى الارتباط الوثيق بين ما يحدث على أرض مصر والعالم العربى وما يدور فى العالم الخارجى وبالذات أمريكا وأوروبا. ربط الصراع العربى ــ الإسرائيلى بالصراع العالمى على الشرق الأوسط، وكشف العلاقة بين سياسة الهيمنة الأمريكية على المنطقة وسياسات أطراف عربية تحالفت معها ضد مصر وضد فكرة القومية العربية. وحين قرر أن يتوقف عن الكتابة فى أواخر التسعينيات أطلق آخر صيحة تحذير على صفحات «وجهات نظر» أن الوطن العربى يسير نحو الدمار، ونبه إلى أن الإرهاب سيكون سلاح الغرب فى الحرب غير المتوازية على المنطقة وهو ما حدث فى السنوات الأخيرة من حياته.
المشهد الآن تراجعت فيه فكرة القومية العربية، تشرذم العالم العربى وتحول إلى مناطق نفوذ ومصالح ودخلت دوله فى حروب وصراعات حياة أو موت، وتقلص دور جامعة الدول العربية إلى الفرجة على تمرير المؤامرات على الأطراف العربية الضعيفة. اختفت أفكار الاشتراكية والعدالة الاجتماعية وسادت سياسات السوق وروشتات البنك الدولى. غاضت أحلام التقدم والنهوض وحلت محلها قوانين العولمة.
توارى الصراع العربى ــ الإسرائيلى خلف الصراع العربى ــ العربى، وتلاشت معالم القضية الفلسطينية. انتهت حركة عدم الانحياز، ولم يعد هناك عالم ثالث أو دول نامية فهذه أيضا كانت من تضاريس الحقبة المنقضية. وأصبح الإعتبار الآن للكيانات القوية، وأصبحت التبعية هى القاعدة، بينما تشكلت بمساعدة الغرب قاعدة أخرى من الإرهابين والمرتزقة باسم الدين ليتغير وجه الحياة فى المنطقة من كيان يسعى للتقدم والتطور إلى صراع مرير بين دعاة النكوص والتخلف ودعاة الاستقرار والتمدن. لم تعد أفكار الاستقلال الوطنى بذات قيمة بعد أن ساد مبدأ أمريكى شرير هو تغيير الأنظمة غير المرضى عنها. وتم تفعيل مادة مبهمة من قانون الأمم المتحدة لتسمح بمقاضاة أى زعيم أو دولة بأى دعاوى ملفقة عن حقوق الإنسان ليتسنى إرهاب الجميع. هكذا تغير المشهد وسادت لغة المصالح والسلاح، والقوة الاقتصادية، ودرجة التقدم البشرى والتكنولوجى.
كانت نداءات هيكل قبل رحيله المباغت تتركز حول البحث عن صيغ جديدة للتعامل مع الواقع المحلى والعالمى الجديد، كان مؤمنا بثورة يناير ورأى فيها دليلا على حيوية المصريين ورغبتهم فى العبور لمستقبل أفضل، وكان متململا من حذر النظام الجديد فى التعامل مع ملف العدالة الاجتماعية والتنمية البشرية كمدخل للنهوض. ولطالما حذر من أن إهمال الطبقة المتوسطة بسبب عدم تبنى سياسات تنمية شاملة سيؤدى إلى انهيار مجتمعى أوسع. ذكر بنصائح نهرو حين قال له إنه يخشى على الطبقة المتوسطة فى الهند أن تسقط فوقها الطبقة الفقيرة فتفتتها وتخنق معها آمال التقدم، وهو ما يهدد مجتمعنا الآن فى مصر.
***
ونحن إذا اتفقنا على أن الطبقة الوسطى فى المجتمع هى مخزن قيمه، وهى التى تحدد الخطوط العريضة لتطوره ونموه، وأنها تربط الطبقة الأدنى حيث ترقد الطاقة اليدوية والمادية وبين الطبقة العليا حيث تتركز الثروة والقوة، فإنه يمكننا أن نرى بوادر إنهيار هذه الطبقة الوسطى بوضوح لم يسبق له مثيل حتى وإن غطت على صوت هذا الانهيار ضجة المشاجرات اليومية مثل الخلاف حول صحيح البخارى أو دعوات الحسبة اللادستورية ضد أهل الرأى، إلى الفتاوى المجنونة حول انواع النكاح، إلى التدهور الاقتصادى المتسارع والانخفاض المؤسف فى قيمة الجنيه، إلى انفلات النظام والانضباط فى صفوف الشرطة وارتفاع صوت المسدسات فى الحوار فوق صوت العقل والمنطق. إلى تصاعد اللغط حول استمرار الفساد وتعاظمه. كل هذه الضجة تصم الآذان والعيون والعقول عن صوت ارتطام الطبقة الوسطى الوشيك بأرض المجتمع الصلبة فتتحطم قيمها وينفرط عقد نظامها وتنتشر فى جنباتها فوضى غير مسبوقة. فالفقر قد تمدد ووصل إلى بنية هذه الطبقة وأصبح يهدد تماسكها القيمى والفكرى وأصبحنا نشاهد فى جنباتها تسطيحا فى طرق التفكير والعمل ونزوعا للقدرية والعشوائية فى التعامل، وتراجعا للتفكير الدينى المستنير أمام التفكير السلفى الذى يحرف الانتباه عن فكرة الدين المعاملة والعمل عبادة إلى نكاح الجهاد وحرمة السلام على غير المسلمين.
نسمع كثيرين ممن يتنبئون بأن ثورة جديدة قد تنفجر بسبب الإحباط المستمر، لكن هؤلاء لا يدركون أن المصريين عازفون عن الانخراط فى ثورة جديدة بعد أن فشلت ثورتهم مرتين وتركت تراجعا اقتصاديا مؤلما. المشكلة الأخطر الآن هى فى الفوضى الناجمة عن انعدام خط واضح لنمو المجتمع. ولذلك فالفساد مع انعدام الهدف الواضح سيكونان حلقة مفرغة تلتهم الطاقة الوطنية وتدمر العزيمة الشعبية. وهو مناخ لن يتحقق فيه تقدم حقيقى.
المرحلة الحالية تشير إلى أن العالم العربى يتخلق من جديد، لن تكون فكرة القومية العربية هى المحرك الأساسى لدوله بل المصالح الحيوية لها مع دول الجوار، وستكون العبرة بمعايير التقدم الاقتصادى والاجتماعى. التنين الأمريكى يضعف والغرب الأوروبى حائر ومفكك بينما الشرق الأوروبى والآسيوى فى صعود وتيد ومنتظم. وستستمر المعارك البينية لانتخاب أطراف الصف الثانى من القوى المؤثرة مثل إيران وتركيا وإسرائيل وجنوب افريقيا والبرازيل، وبكل أسف لسنا منها، فالعالم العربى مرشح لاستمرار مسلسل النزيف حتى تسقط أطراف عربية أخرى، ومؤامرة الصراع العقائدى ستستمر إلى حين.
***
فى هذا الجو العاصف بالمنافسة والتغيير ستظل إسرائيل مصدر تهديد مستمر، ورغم أن مصر محقة كل الحق فى تنمية وتحديث قوتها العسكرية إلا أن حرب إسرائيل المستمرة عليها انتقلت إلى الحصار الاقتصادى والسياسى، ومؤامراتها فى إثيوبيا أوضح دليل على ذلك. ومصر لن تتمكن من صد هذه التهديدات إلا بنهضة اقتصادية واجتماعية شاملة. لابد لمصر أن تتخلى عن السياسات العقيمة التى تستجدى الاستثمار والمعونة والقروض، فهذه لن تجدى فتيلا فى قضية التقدم، وعليها أن تبتكر حلولا جديدة للتنمية السريعة بالجهود الذاتية بتطوير التعليم والارتقاء بمستوى الإنسان المصرى، وأن تعتمد على الطاقة البشرية غير المستغلة. فى هذا الإطار سوف تكتشف مصر أنه لا بديل لها إلا التوجه إلى العمق الإفريقى الذى أهملته وأضاعت بإهماله فرصا هائلة للنمو والتقدم والتأثير، وإلى الشرق الناهض فى آسيا حيث الانضباط والحزم والاقتصاد الموجه قد حقق المعجزات. إن مصر تحتاج أن تتخطى البحر العربى المتلاطم وأن تمد يدها لإخوانها فى إفريقيا وآسيا بخطة اقتصاد موجه، يكون محورها تغيير الإنسان المصرى.
طبيب نفسى مقيم فى المملكة المتحدة