فى تفسير ما مر
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الثلاثاء 19 أبريل 2016 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
تعويلا على مفردات ومضامين الفكرة الديمقراطية، يحق للمصريات والمصريين رفض الغياب الكارثى للشفافية عن الإدارة الحكومية لملف ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، والغضب من الاستعلاء الرسمى الذى لم يتوقف عند تجاهل الرأى العام بل تمادى إلى إصدار «أمر» للمواطن بالامتناع عن الحديث فى مسألة ترسيم الحدود ووضعية جزيرتى تيران وصنافير.
يحق للناس الرفض والغضب، تماما كما يحق لهم مناقشة مسألة ترسيم الحدود دون خوف أو قيود تنتقص من حرية التعبير عن الرأى. غير أن نزع المكون الموضوعى عن النقاش العام وتأجيج المشاعر الوطنية والتلاعب بالحقائق والمعلومات جميعها ظواهر تتناقض مع الخيوط الناظمة للفكرة الديمقراطية وترتب تداعيات بالغة السلبية.
خيط أول هو التزام الأمم المتطلعة إلى حكومات ديمقراطية بالقواعد المنصوص عليها فى المواثيق الدولية والمعمول بها فى القانون الدولى والنافذة بين الدول وفقا لتعهدات متبادلة. ليس من التطلع إلى الديمقراطية فى شىء أن يحمل الرأى العام فى مصر على تجاهل القواعد الدولية المنظمة للسيادة فى البحار ولحدود المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية أو على إنكار ما تراكم من تعهدات متبادلة بين الحكومات المصرية والسعودية بشأن مضيق تيران وجزيرتى تيران وصنافير.
خيط ثانٍ هو ضرورة وعى القوى المجتمعية والتنظيمات المستقلة التى تقود الحراك الشعبى المطالب بالديمقراطية بخطر تأجيج المشاعر الوطنية وتوظيفها هى بمفردها فى مواجهة السلطويات الحاكمة. لدينا فى مصر الكثير من الأسباب لمعارضة السلطوية الحاكمة والسعى إلى استعادة مسار تحول ديمقراطى، من انتهاكات الحقوق والحريات وقمع المواطن والمجتمع المدنى إلى السطوة الأمنية وإماتة السياسة وتسفيه ممارسيها. لدينا فى مصر آلاف المظلومين فى أماكن الاحتجاز وخارجها، وإخفاقات متراكمة لسلطوية تحكم دون كفاءة.
تكفى هذه الأسباب للتجديد المستمر لدماء الحراك الشعبى المطالب بالديمقراطية، ويمكن تدريجيا تفكيك وتفنيد الأساطير المؤسسة للسلطوية (حكم الفرد كفعل إنقاذ وطنى، والصوت الأوحد والرأى الأوحد وإسكات المعارضين كشروط لمواجهة المؤامرات والمتآمرين) وبمقايضاتها السقيمة (إما الأمن وإما الحرية، إما الخبز وإما السياسة والنخب المدنية ذات المصالح الضيقة). فى المقابل، يضع تأجيج المشاعر الوطنية (دون أسس موضوعية) الحراك الديمقراطى فى معية أخطار بالغة.
من جهة، تستطيع السلطوية الحاكمة أن تقلب الطاولة على معارضيها من خلال الاستحواذ على «المسألة الوطنية» محل النظر، والاستجابة للمطالب الشعبية بصددها (أو التحايل عليها)، ومن ثم اكتساب شرعية زائفة. لنفترض جدلا أن الهيئة التشريعية سترفض اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، كيف سيكون وضع القوى والتنظيمات الديمقراطية عقب ذلك؟، وهل ستقدر على العودة إلى الشارع الذى عبأته لرفض الاتفاقية لكى تذكره بحقوق الإنسان والحريات وبسيادة القانون الغائبة وبالسطوة الأمنية التى تعتاش عليها السلطوية الحاكمة وهى استجابت لمطلب «الجماهير» وألغت الاتفاقية؟
من جهة أخرى، يخلط تأجيج المشاعر الوطنية (مجددا دون أسس موضوعية) الحابل بالنابل فى الحراك الديمقراطى ويلغى عملا إمكانية تبلور مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية محددة تلتف حولها تدريجيا وبنفس طويل قطاعات شعبية مؤثرة. عوضا عن مواصلة الاقتراب اليومى من الناس ونشر الوعى بشأن استحالة ضمان الأمن والخبز دون الحرية واحترام حقوق الإنسان وبشأن الارتباط المؤكد بين السلطوية الحاكمة وبين الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية، تتخلى القوى والتنظيمات الديمقراطية عن كل ذلك. وتعزف جماعيا على أوتار المشاعر الوطنية (الأرض والعرض)، وتنجرف إلى التلاحم مع الجماهير (للمرة الثالثة دون أسس موضوعية). وتتورط فى الانفتاح على آخرين دعموا السلطوية حين استحوذت على الحق الحصرى للحديث باسم الوطنية المصرية، ولا ينشدون اليوم سوى تصويب بعض ممارساتها أو استبدالها بسلطوية تأتى بمنقذين ومخلصين جدد. وتترك مطالبها الأصيلة كإيقاف الانتهاكات وسيادة القانون وتداول السلطة إلى مصير الانزواء المشئوم.
لهذا كان موقفى المغرد خارج السرب بداية، ثم صمتى الذى أنكره على البعض وقد كان وسيلتى الوحيدة للابتعاد عن المساومة على قيم الموضوعية والعقلانية والديمقراطية التى أثق بقدرتها على إخراجنا من المأزق السلطوى الراهن.