البيروفى «يوسّا» سارد الحكايات!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 19 أبريل 2025 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
(1)
تعرفت على اسم الكاتب البيروفى الكبير ماريو بارغاس يوسا (غادر عالمنا الأسبوع الماضى عن 89 عاما) للمرة الأولى من المرحوم غالى شكرى أولا حينما قرأت له مقالًا رائعا عن روايته (من قتل بالومينو موليرو)، وثانيا من المرحوم الدكتور حامد أبو أحمد أستاذ الأدب الإسبانى بجامعة الأزهر، مترجم الرواية الذى لعب دورا مهما ومؤثرا فى تعريف أبناء العربية بروائع أدب أمريكا اللاتينية، والإشارة إلى أبرز كتابها الذين شكلوا ما عُرف فى تاريخ الرواية العالمية خلال النصف الثانى من القرن العشرين بتيار الواقعية السحرية..
قرأت عن «يوسا» قبل أن أقرأ له؛ ولم تكن شهرته فى العالم العربى فى ذلك الوقت (تسعينيات القرن الماضى) تطاول شهرة صديقه وغريمه الكولومبى اللدود جابرييل جارسيا ماركيز صاحب «مائة عام من العزلة»..
خلال العقد الأول من الألفية الثالثة (2000-2010) قرأت عددًا وافرا من روايات يوسا، وأعماله غير الأدبية أيضًا، وأدركت أننى فى حضرة أديب كبير وكاتب فذ ممن أوتوا الموهبة والقدرة والصنعة والثقافة على تمثل روح وجوهر ثقافتهم الوطنية والمحلية، ووصلها بالآن ذاته بالروح الإنسانية، والتراث الإنسانى الذى يعلو على الزمان والمكان ويتجاوزهما فى الآن ذاته.
أدركت أن من أراد أن يتعرف على روح الثقافة البيروفية (نسبة إلى بيرو؛ واحدة من أعرق دول أمريكا اللاتينية) وجوهرها وخصوصيتها فى اتصالها الإنسانى والكونى بغيرها من الثقافات والآداب؛ فلن يجد أفضل ولا أجمل ولا أمتع من روايات ماريو بارغاس يوسا كى يمسك بهذه الروح ويتعرف على هذه الخصوصية..
إنه من طبقة الكبار مثل كازانتزاكيس اليونانى، ونجيب محفوظ المصرى، وجارسيا ماركيز الكولومبى، وأتشيبى النيجيرى، ونجوجو واثيونجو الكينى.. إلخ، قائمة الشرف والإبداع التى تضم أسماء كبار كتاب الأدب وصفوتهم المختارة فى كل العصور..
(2)
احترف بارجاس يوسا العمل الصحفى منذ كان فى الخامسة عشرة من عمره، وظل يكتب للصحافة بانتظام حتى رحيله، وعرف الحياة العسكرية، واحترف العمل السياسى، كذلك كان رحالة، وتعددت مغامراته، لكنه لم يتوقف عن قراءة الأدب وإبداعه يومًا واحدًا.
يجمع النقاد على أن أعماله الأدبية تنطلق من وقائع وتجارب حياتية يصوغها خيال عبقرى، وسيطرة بديعة على «إسبانيته»، وعلى المعرفة الوجدانية لتاريخ الإنسان الحديث بطريقة مستحدثة تجعل من واقعية أعماله كتابة للتاريخ منحازة للحرية ضد الديكتاتورية، حتى أن حيثية منحه نوبل التى لفتت الأنظار هو تضمن أعماله ما أطلقت عليه «أطلس الديكتاتوريات». كما أشارت إلى أن المصادر المتعددة لخبرات وثقافة بارجاس يوسا، وعلى رأسها التعدد الثقافى البيروانى أو البيروفى (نسبة إلى بيرو) منحت أعماله بعدًا إنسانيّا غائرا عميق الصدى، غير محدود الأفق.
ويوضح الناقد والمترجم أستاذى الراحل الكبير الدكتور سليمان العطار - أحد الذين ساهموا فى تعريف أبناء الثقافة العربية بأدب وكتابة يوسا - أنه مر بمرحلتين فنيتين كبيرتين، فى الأولى كان شديد الجدية، وفى المرحلة الثانية سيطر على حس السخرية، هكذا يشبه ماركيز الذى أمضى ربع قرن من الكتابة شديدة الجدية قبل القدرة على السيطرة على حس السخرية، وهو الأسلوب الأرفع والأصعب فى نفس الوقت لدى كتاب الرواية.
فى ضوء هذا التقسيم العام يمكننا فهم المنطلق الذى فهم به يوسا الكتابة (والقراءة) فيما يتصل بعملية الإبداع الأدبى؛ يقول: «والقراءة - مثلها مثل الكتابة - احتجاج ضد عدم الكفاية فى الحياة. ومن يبحث فى القصص عما لا يملكه، يقول دون حاجة لقوله، أو حتى لمعرفة أنه قاله، إن الحياة كما هى الآن لا تكفينا لرى ظمئنا المطلق أساس الوجود الإنسانى، وإنها ينبغى أن تكون أفضل. فقد اخترعنا القصص كى نستطيع العيش بشكل ما الحيوات الكثيرة التى نود الحصول عليها، بينما نحن لا نكاد نملك حياة واحدة»..
(3)
واسم «يوسا» تحديدًا يبرز من بين الكوكبة الزاهرة المتألقة من كتاب أمريكا اللاتينية الذين ظهروا فى النصف الثانى من القرن العشرين، وملأوا الدنيا إبداعًا ورواياتٍ جميلة ساهمت فى تكريس تيارٍ فنى كامل عرف بالواقعية السحرية، ذلك التيار الذى ملأ الدنيا وشغل الناس واستحوذ على إعجاب مئات الملايين فى العالم من قراء الأدب وعشاق الرواية؛ وما زال هذا التيار حتى وقتنا هذا يستحوذ على نصيب الأسد من المتابعة والقراءة، وترك أثره عميقا فى معظم كتاب الأدب والرواية فى العالم أجمع، وضمنه وفرة لافتة ممن يكتبون الرواية والسرد الإبداعى فى الأدب العربى المعاصر.
وسط هذه الكوكبة الرائعة، يتألق اسم الروائى البيروفى الأشهر وسط هذه المجموعة المنتقاة ذات الموهبة العالية من الكتاب النجوم الذين شهروا بـ«كتاب جيل الازدهار»، وهو الجيل الذى دفع بأدب أمريكا اللاتينية إلى صدارة الأدب العالمى، ومشهد الرواية العالمية قرابة العقود الخمسة أو يزيد.
والقليل من الكتاب نزهاء بشأن أعمالهم مثل بارجاس يوسا، والأقل منهم المتبصرون بأعمالهم مثله. إن استقامته وحياده بخصوص تلك العناصر من حياته التى تحتويها أعماله بوضوح، تضىء شخصيته الأدبية، وتظهر اهتماماته الملتزمة بالكتابة الأدبية عامة، وبفنه الخاص على وجه التحديد..
(وللحديث بقية)