معادلة سليمان عيد
خالد محمود
آخر تحديث:
السبت 19 أبريل 2025 - 7:22 م
بتوقيت القاهرة
تبقى معادلة الفنان سليمان عيد متفردة، يرضى بواقعه يعيش على أدوار صغيرة، يخلق منها كيانا وكأنه يشيد تاريخه الشخصى فى حياة الفن مشهدا مشهدا.
عندما قابلته بعد مرور حوالى خمس سنوات على فيلم «واحد من الناس» قلت له إنه جسد دورا كبيرا ومهما، بل وأسس لحالة العمل دراميا بالكامل، وجدته سعيدا تملأ وجهه ابتسامته المعهود، وقال «دا كتير علىّ» واحتضننى.
لم أكن أبالغ فى شهادتى على أداء سليمان عيد الذى فجّر مشاعر إنسانية كبيرة فى إطار تراجيدى رغم أنه كوميديان كبير.
فى هذا الفيلم الذى عرض عام ٢٠٠٦، قدم سليمان خمسة مشاهد، مجسدا شخصية عسكرى أمن مركزى الذى يعانى مثلنا قوت الحياة، يعترف على نفسه بقتل الشاب الثرى ليأخذ مبلغ ٥٠ ألف جنيه يعالج أمه المريضة، ثم نراه بعد ذلك مشنوقا بفعل فاعل، بدت الحادثة انتحارًا.
قال لى سليمان: «تصور يمكن ده الدور الوحيد اللى أخدت عليه جائزة أحسن ممثل تانى.. فى حين أن الأدوار الكوميدى مخدتش فيها جوائز رغم أنها أصعب من التمثيل العادى».
أراد أن يثبت نجاحه فى الأدوار الجادة مثلما أثبتها فى الكوميديا.
نجاحه فى هذا الدور لم يكن يغرى المخرجين لاستغلال طاقته لأداء شخصيات عميقة، واستسهلوا الاستعانة به فى أدوار الكوميديان الطيب، والمواطن المصرى البسيط الذى ينتزع الضحكات وحقق فيها نجاحا ملفتا ومميزا.
كان واحدًا من القلائل الذين أجادوا التمثيل العميق الساخر فى آن واحد، بملامح وجهه وحدها يستطيع أن يروى مشهدًا كاملًا دون أن يتكلم.
فى محطة أخرى أتوقف عند فيلم «عسكر فى المعسكر»، وبالتحديد المشهد الذى قام فيه العسكرى جابر خلال الفيلم بإلغاء قصيدة بحبك وختمها بقوله «موتى .. إنى آسف» والتى كان لها ظلالها الإنسانية الكبيرة .
قال فى القصيدة بأداء كوميدى دافئ «بحبك من جوه النبض الراقد بين ضلوعى.. وبرغم البعد الباعد بينى وبينك بحبك.. وبقولك لع فاهانى.. لع أنا قلبى عليكى ياغالية ياسافلة.. وبقولك حاسبى أنا قاتل قبلك صفية وسلمى نعمات.. وأجيلك عارفه ليه.. عشان أقتلك.. أقتلك.. أقتلك.. موتى.. أنى آسف».
الكوميديان الجيد، حين يُمنح الفرصة، يصبح ممثلًا ثقيلًا وصاحب بصمة، وهو ما نجح فيه سليمان عيد فى تلك المحطات القليلة بتلك المنطقة.
نعم منذ ظهوره، التصق به دور «البسيط» أو «الساذج» الذى يُضحك الناس بسهولة، لكنّ خلف هذه الأدوار كان يخفى حلمًا أكبر، وطموحًا لم يشأ القدر أن يمنحه له.
لكن ما يعوض ذلك هو ذلك المشهد الذى لامسته فى محطة الرحيل.. حزن كبير على وجوه الفنانين فى جنازة سليمان عيد، الذى لامس وجدان محبيه ورفقاء المشوار كما لامس الجمهور بأدوار صغيرة، أخلص لها.. كانت تنبض بالصدق والعفوية.
المخرج نادر جلال، حين غامر بسليمان بشخصية بوصيرى فى «درب الطيب»، متجاهلًا صورته النمطية كان يعرف إمكانيات سليمان عيد الأخرى، ليقدم أحد أجمل أدواره الدرامية التى كتبها بشير الديك.
المخرج عمرو موسى منحه فرصة مختلفة فى مسلسل «ساعته وتاريخه»، نجح سليمان من خلاله فى كسر النمط مجددًا، مقدّمًا دورًا بعيدًا عن «المنطقة الآمنة» التى يلوذ بها كثير من الممثلين مع التقدّم فى العمر، لكنه كعادته اختار السير فى الاتجاه المعاكس، وقرر المغامرة.
أثبت من جديد أن الموهبة الحقيقية لا تشيخ، بل تدهشنا كلّما تحررت من سجن التصنيف.
لم يكن سليمان عيد يملك رفاهية الرفض كان يريد أن يستمر من أجل العيش، لكنه حتى فى تلك المنطقة ترك بصمة، بمشهد أو جملة حوار مازالت تعيش بيننا، وهناك مشهده الشهير فى فيلم «الباشا تلميذ» الذى شارك خلاله مع الفنان كريم عبد العزيز وهو مشهد حفل الزفاف بينه وبين الفنان حسن حسنى حينما قال له «انتباه ياعسكرى» ليرد سليمان عيد «لا مش انتباه»، لتعيش الجملة طويلا، وكذلك أداؤه المميز والصادق بفيلم «الناظر»، لم يكن مجرد كوميديان، بل كان تجسيدًا صادقًا لمفهوم «الظل الخفيف»، ذاك الذى يمر فى مشهد واحد، لكنه يترك فى القلب أثرًا لا يُمحى.
مزج بين الجد والهزل، يملك سر الضحكة الصافية، حتى فى قلب التراجيديا، يمنحها دفئًا.
ليترك بصمة واضحة مليئة بالبهجة فى وجدان المشاهدين، ليصبح صوتًا للبساطة الشعبية المصرية فى أنقى صورها.. ضحكة.. حزن.. حكمة.. وجه مصرى.. قلب طيب.. عفوية مثلما شاهدناه فى «الفرح» و«حين ميسرة»
و«جزيرة غمام» و«قهوة المحطة»، وسيبقى سليمان عيد فنانًا وإنسانًا.