«أحاديث برقاش».. هيكل بلا حواجز
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 19 مايو 2017 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
عنوان المقال مأخوذ عن الكتاب الجميل الممتع الذى كتبه الأستاذ عبدالله السناوى (تصدر طبعته الأولى هذا الأسبوع عن دار الشروق)، وهو حصيلة وجماع التجربة الإنسانية والصحفية والفكرية التى جمعت التلميذ (السناوى) بالأستاذ (هيكل) عبر ستة عشر عاما.
الكتاب (يقع فى 340 صفحة من القطع الكبير) بغلاف لافت للفنان هانى صالح (الحائز على جائزة الشارقة للإبداع الفنى أخيرا)، ويحوى ما أطلق عليه الأستاذ السناوى «الأحاديث» التى أجراها مع الأستاذ أو دارت فى حضوره أو كان شاهد عيان على لقاءات وحوارات ومواقف محورها الأستاذ هيكل.
كلمة «أحاديث» هنا تتجاوز مفهومها الدلالى الضيق وتخرج قطعا عن حصرها فى دائرة الحديث الصحفى أو الحوار المباشر. كلمة «أحاديث» هنا تحيل إلى معانى أبعد تتضمن الملازمة والعكوف ورسوخ العلاقة وتمثل المعنى والقيمة أكثر من كونها تحيل إلى لقاء عابر أو حديث مسجل وكان اللهُ بالسر عليما!
ينتمى الكتاب لدائرة التأريخ الإنسانى والمهنى، فى مزيج بديع بين الذاتى والموضوعى، الكتاب بصورة أو أخرى هو قطعة حقيقية ودالة من حياة كاتبها الأستاذ عبدالله السناوى نفسه، فهو يحضر بقدر ما تستدعيه الحوادث وبقدر ما يستلزم إكمال الرواية وإضاءة الصورة.
وإذا كان «لكل تجربة إنسانية، أو سياسية، أو مهنية مسارها الخاص، فهناك مسارات استثنائية لبشر استثنائيين»؛ ومنهم الأستاذ هيكل الذى كانت حياته وتجربته كلها استثنائية بكل المقاييس؛ استثنائية بما أتيح لها من خبرات حصلتها وحوادث عاينتها وشخصيات التقتها، واستثنائية حتى بقيمة من تصدى للكتابة الجادة عنها وتحليل جوانب وأبعاد هذه التجربة «الاستثنائية» فى كتابة افتقدناها زمنا طويلا.
يقول الأستاذ السناوى، إن قيمة القامات الكبرى فى السياسة والصحافة والفكر والأدب والفن فيما تتركه من مدارس فكر وتأثير. وما يسرى على رئاسات الدول لا ينطبق على مفكريها ومبدعيها؛ نعم هذا صحيح. فقوة الفكر فوق قوة أى سلطة فى أى حساب أخير.
لم يكتب الأستاذ سيرة ذاتية صريحة (مثل صديقه نجيب محفوظ)، ولا كان واردا فى تفكيره أن يكتبها، فكل ما أراد أن يتركه أشار إليه فى كتاباته وكتبه، أو أودعه على شرائط مسجلة بثتها محطة «الجزير» فى برنامجه (سيرة حياة)، ونصوصها فُرغت على ورق وضبطت صياغتها لتكون صالحة للنشر، وقد راجعها بنفسه. ومن رؤى فى الأمن القومى والفكر السياسى إلى التأريخ للصراع على مصائر المنطقة، هو نفسه لخص تجربته بـ «عمر من الكتب». وديعته فى كتبه وإرثه فى مدرسته.
ضخامة التجربة وتعدد مناحيها فرضت أيضا أن يكون البحث عن«السيرة» وعن«فرادة تجربة هيكل» والكتابة عن الأستاذ تستدعى طرقها ومؤلفيها. أتصور أن «أحاديث برقاش» من أهم هذه الكتب وأكثرها قربا على الحقيقة لا المجاز من عقل وفكر وتكوين الأستاذ.
قد نتفق أو نختلف حول بعض ما كتبه الأستاذ أو أعلنه من رأى أو أنتجه من تحليل، لكن أظن أن لا أحد يختلف على أنه أهم وأعظم صحفى مصرى (وأقول عربيا أيضا) ظهر فى القرن الماضى؛ عبقرية خالصة، بنى مجده وصنع أسطورته بمزيج فريد من موهبة ضخمة وثقافة عريضة ووعى حاد وعشق يصل حد الفناء للصحافة والتاريخ والكتابة.
فى رأيى، وأظن أن كثيرين يشتركون معى فيه، أن الأستاذ «روائى من الطبقة الأولى الممتازة» ضل طريقه إلى الصحافة (فى الحقيقة هو لم يضل بل كان واعيا تماما بمساره الذى اختار)، لغة الأستاذ هيكل وصياغاته الأسلوبية كنز حقيقى بين أيدى الدراسين والباحثين؛ بل أزعم أن كتاباته على جديتها ووفرة المعلومات التى تحتويها والوثائق التى يستند إليها تسرى فيها روح الدراما الأصيلة؛ الدراما التى تقوم على الصراع والتناقض وتمتد بجذورها إلى أصلها الإغريقى فى ثنائية الخير والشر، والإنسان فى مواجهة القدر.
يصف الأستاذ عبدالله السناوى ظاهرة الأستاذ هيكل بقوله «بحجم قوة التأثير فى حركة الأحداث تحركت على أرض الواقع ظاهرة فريدة لا مثيل لها فى التاريخ الحديث، أن يحوز رجل خارج السلطة كل هذا النفوذ»، وأنه أثبت يقينا أن «قوة الفكرة فوق قوة السلطة فى أى حساب أخير».
يروى الأستاذ السناوى عن نجيب محفوظ أنه قال ذات يوم: «فى كل عصر نتساءل.. أين هيكل ليقول لنا القول الفصل؟».
لن يفى مقال واحد بجلاء حلاوة هذا الكتاب وطلاوة أسلوبه.. فصاحب الكتاب وموضوعه يستحقان أكثر من ذلك.. بكثير..
وللحديث بقية..