الاشتباك مع الاستبداد دون إطالة أمده
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 19 مايو 2017 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
ليس دور العلوم السياسية أن تقدم النصح للحكام، بل أن تكشف حقائق الحكم ومناحى العدل والظلم فى إدارة شئون الناس وأنماط توزيع القوة التى تصنع الفوارق بين مجموعات المتنفذين والمالكين وبين من لا نفوذ لهم ولا ملكية مؤثرة. ولا تقتصر مهمة الدارسين على تفسير أسباب نشوء واستمرار نظم الحكم الديكتاتورية والسلطوية وفرص التحول منها إلى ديمقراطيات نامية ثم مستقرة ومتطورة. ليست هذه مهمتهم وحسب، بل عليهم أيضا الاضطلاع بصياغة النقد الأخلاقى والمجتمعى للأوضاع السائدة حين يغيب العدل وينتشر الظلم وتصير الفوارق بين الناس هوة سحيقة تفصل بين القلة المسيطرة وبين الأغلبية المقهورة محل السيطرة.
وتغيب المعانى النهائية عن أطروحات هامة يأتى بها بعض دارسى العلوم السياسية لإصلاح النظم الديكتاتورية والسلطوية إن من داخلها أو على هوامشها، ما لم ترتبط بالتزام مبدئى بالدفاع عن حريات وحقوق المواطن وباقتناع بحتمية تمكينه من المساءلة والمحاسبة السلميتين للحكام ومن إدارة تداول السلطة وفقا لاختيار الأغلبية وفى إطار بناء ديمقراطى متكامل. دون ذلك تصير أحاديث الإصلاح والتحولات بمثابة واجهة فكرية وأكاديمية زائفة تكسب الديكتاتوريات والسلطويات مظهر الوجود الطبيعى (طبعنة الاستبداد)، وتتوارى بعيدا عنها حقائق وتفاصيل المظالم التى تعانى منها الأغلبيات المقهورة على نحو ليس له سوى أن يطيل عمر الظلم ويفرد له مساحات مجتمعية إضافية ويقدم له المزيد من الضحايا (استمرارية الاستبداد).
وتغيب الغايات الكبرى عن أطروحات الإصلاح، ما لم تندرج فى السياقات الأوسع والأعمق لرؤية شاملة للتغيير الديمقراطى والتنمية المستدامة. وحين تعرض مثل تلك الأطروحات على الناس بعيدا عن قاعات بحث العلوم السياسية وعن حوارات الأبواب الموصدة مع المسئولين الحكوميين، لن يتأتى لها أن تحصد قدرا معتبرا من التأييد الشعبى ما لم يظهر جليا أنها تقارب بين الأغلبيات المقهورة وبين دفع الاستبداد والظلم والفقر.
***
بناء ومفيد أن يحدث اشتباك مع السلطوية الحاكمة فى مصر لتعيين المساحات والآليات التى يمكن النفاذ من خلالها إن للضغط بهدف الحد من الفساد والإصلاح التدريجى، أو لاستعادة توازن مفقود بين المؤسسات العسكرية والأمنية وبين المؤسسات المدنية، أو للمنافسة الانتخابية بهدف تقديم بديل لرئيس الجمهورية الحالى ونخبته لا يخيف أو يألب كل مجموعات المتنفذين والمالكين.
على سبيل المثال، يمكن فيما خص مسألة الفساد الارتكاز إلى تمييز صريح بين صنوف منه يمكن اليوم مواجهتها لحضور إرادة الحكم كالتعديات على الأراضى ذات الملكية العامة واستغلال المنصب العام للتربح (فساد الأفراد)، وبين ما لا يمكن مواجهته لغياب تلك الإرادة كشبكات المصالح الحاضرة داخل مؤسسات الدولة لحماية احتكارات كبرى فى القطاعات الاقتصادية والمالية وكالتفاوت الهيكلى فى توزيع العوائد المادية وعوائد النفوذ داخل بنية الدولة بين مؤسسات تحابى كالجيش والأمن والقضاء ومؤسسات تهمش كوزارات الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة (الفساد المؤسسى).
يمكن، ثانيا، التعامل بجدية مع المساحات والآليات ذات المظهر الديمقراطى والمضمون الاستبدادى إن كالبرلمان الذى أجريت انتخاباته وتم تشكيله فى ٢٠١٥ بإدارة أمنية واستخباراتية بينة أو كمؤتمرات الشباب التى تديرها مؤسسة الرئاسة وتستنسخ تنظيما ومضمونا ونتائج اليافطات القديمة وخبرات الماضى عن حوارات الرئيس الملهم والشباب المخلص. بعض دارسى العلوم السياسية الباحثين عن الإصلاح التدريجى يرى فى البرلمان، وعلى الرغم من سيطرة رئاسة الجمهورية والأمن والاستخبارات الكاملة عليه، مساحة لشيء من العمل التشريعى والرقابى الجاد فيما خص الشئون الاقتصادية والاجتماعية والسياسات التى تطبقها السلطة التنفيذية حيالها. بعضهم الآخر يرى أن آلية مؤتمرات الشباب حال استمرارها تقدم فرصا للتواصل بين الحكم وبين قطاع شعبى مؤثر ويتوقع أن القبضة الأمنية والاستخباراتية التى تحدد هوية «الشباب» المشاركين ونوعية «القضايا» المثارة وتعطى لرئيس الجمهورية وضعية «المتحدث والمعقب الأول» ستتراجع بمرور الوقت لمصلحة حوارات منفتحة وتعددية.
متاح، ثالثا، التفتيش عن سبل تضييق فجوة القوة والنفوذ داخل بنية الدولة المصرية بين المؤسسات العسكرية والأمنية المهيمنة وصاحبة السيطرة على رئاسة الجمهورية ومراكز اتخاذ القرار فى السلطة التنفيذية، وبين المؤسسات المدنية المستضعفة على الرغم من إسهامها المحورى فى بقاء الدولة واستقرارها كالسلطة القضائية والهيئات الرقابية كالجهاز المركزى للمحاسبات. بغض النظر عن طبيعة وتفاصيل عمليات تقاضى ما بعد صيف ٢٠١٣ والمظالم التى استقر فى وجدان بعض القطاعات الشعبية كالشباب وطلاب الجامعات والعمال وبعض المجموعات المسيسة كأنصار جماعة الإخوان أنها نجمت عن عمليات التقاضى تلك، يصعب إنكار أهمية تمكين القضاء من مقاومة هجمة السلطة التنفيذية الراهنة عليه (قانون الهيئات القضائية نموذجا) لمنع امتداد هيمنتها باتجاه اختطاف شامل للسلطات العامة ومن ثم للدولة. كذلك، ولأن النخب المدنية إن المشاركة فى المساحات والآليات ذات المظهر الديمقراطى كالبرلمان ومؤتمرات الشباب أو المقاطعة لها تتسم بالضعف والهزال الشديدين، يصبح الدفاع عن استقلالية هيئات كالجهاز المركزى للمحاسبات ضرورة للاحتفاظ بشيء من أدوات الرقابة المدنية على السلطة التنفيذية ولدمج عناصر من غير العسكريين وغير الأمنيين فى دولاب الحكم ومن ثم فى بنية الدولة.
أخيرا، وهنا يقع مصدر لتوليد طاقة جماعية تتجه إلى المقاومة المنظمة والعلنية للسلطوية الحاكمة، يمكن الدفع بأولوية الالتفاف حول «مرشح للمعارضة» قادر على المنافسة فى الانتخابات الرئاسية ٢٠١٨، والربط بين طرح «المرشح» على الرأى العام وبين الترويج لمقاربة للأوضاع الراهنة فى مصر مفادها أن فرص التغيير الديمقراطى مازالت قائمة. فحالة مصر لا تختلف كثيرا عن حالات سبقت زمنيا لسيطرة المؤسسات العسكرية والأمنية على الدول والمجتمعات فى عدد من بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا (توالت هذه الحالات منذ ثمانينيات القرن العشرين وتكررت خلال السنوات القليلة الماضية) وانتهت إلى تحولات ديمقراطية ناجحة ما إن نزعت قوى المعارضة المجتمعية والسياسية إلى مقاومة السلطوية الحاكمة سلميا عبر المنافسة فى جميع المساحات ذات المظهر الديمقراطى الحاضرة كاختيار رؤساء الجمهوريات وتشكيل البرلمانات وبتوظيف جميع الأدوات ذات المظهر الديمقراطى المتاحة للاستخدام وفى طليعتها العمليات الانتخابية.
***
لا تجافى الصواب الإشارة إلى أن تداخل المعارضة فى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية يكسب أحزاب وحركات وقيادات وأفراد المعارضة هذه طاقات تنظيمية وخبرات فى العمل الجماهيرى بالغة الأهمية، ويضع السلطوية فى معية مشاهد سياسية تحمل فى طياتها بذور الاستعصاء على سيطرة الحكام والسيناريوهات المعدة من قبل مؤسساتهم العسكرية والأمنية لإدارتها. وقد تتمخض الانتخابات عن نتائج غير متوقعة تعيد تعريف معادلات الحكم وتحدث تغيرات كلية أو جزئية فى تكوين النخب (والخبرة التاريخية محل العشق فى هذا السياق هى شيلى فى ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين). ولا تعنى «المنافسة» فى الانتخابات لمقاومة السلطوية الحاكمة الاكتفاء بمجرد طرح مرشح للرئاسة أو فرق من المرشحين للبرلمان (والمجالس المحلية إن حانت انتخاباتها)، بل لابد من الربط بين طرح المرشحين وبين صناعة برنامج اقتصادى واجتماعى وسياسى «بديل» يحفز الناس على الإنصات إلى المرشحين ويضمن عدم تأليب جميع مجموعات المتنفذين والمالكين الملتفة راهنا حول نخبة الحكم والبادى على بعض عناصرها التململ والقلق، ويستمر وجوده فى النقاش العام بعد أن تجرى الانتخابات وبمعزل عن نتائجها.