سلام أم هزيمة: صراع الروايات على أرض فلسطين
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 19 مايو 2018 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
فى سنة 1988 أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعى للشعب الفلسطينى، اعترافها بحق إسرائيل فى الوجود، ثم جددت اعترافها بهذا الحق فى سنة 1993 بالتوقيع على ما صار يعرف باتفاق أوسلو. منذ قبولها بالقرار رقم 242 الصادر عن مجلس الأمن فى نوفمبر سنة 1967، كانت الدول العربية قد اعترفت عمليا بحق إسرائيل فى الوجود. ثم كرّست مصر وبعدها الأردن فى سنتى 1979 و1994 هذا الاعتراف صراحةً وقانونا بالتوقيع على اتفاقيتى واشنطن ووادى عربة. وفى سنة 2002، صدرت عن القمة العربية مبادرة السلام العربية وفحواها مبادلة الأرض المحتلة منذ سنة 1967 وحدها بالاعتراف الرسمى والتطبيع، مع تسوية المسائل الأخرى الناتجة عن الصراع العربى الإسرائيلى وفى مقدمتها اللاجئون وحقهم فى العودة أو التعويض، ومدينة القدس باعتبارها رمزا وطنيا فلسطينيا، ناهيك عن قيمتها الدينية. المبادرة شكلت الإدراك العربى للصراع العربى ــ الإسرائيلى، والفلسطينى الإسرائيلى تحديدا، فى مطلع القرن الحادى والعشرين ولإمكانية حله.
الوقائع المذكورة تعنى تخلِّى العرب عن روايتهم الأصلية للصراع وأخذهم ضمنيا برواية جديدة له. الرواية الوسط الجديدة التى طورها العرب تحت ضغط الهزائم العسكرية وتوزيع القوى فى النظام الدولى، وضرورة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإجمالا، الواقعية، هى أنه للإسرائيليين والفلسطينيين أن يتقاسموا أرض فلسطين، حتى وإن كانت القسمة غير عادلة، وأن يتعايشوا وأن ينسحبَ هذا التعايش مع إسرائيل على جميع الدول العربية. هذه الرواية الوسط تعنى قبول العرب بشرعية وجود إسرائيل. أساس الرواية هو مبادئ التسوية الواردة فى القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. جوهر هذه التسوية، الذى اتخذه حتى تصور الولايات المتحدة له هو حل الدولتين وحق الشعب الفلسطينى فى دولته المستقلة. حق إسرائيل فى الوجود صار مفروغا منه. المسألة أصبحت حق الشعب الفلسطينى فى وجود دولة له! رواية العرب الأصلية عن فلسطين التى اغتصبت وعن حق شعبها فى كل أرضها التى عاش عليها بلا انقطاع حتى منتصف القرن العشرين تخلّى العرب، وحتى غالبية الفلسطينيين، عنها.
***
غير أنه فى الوقت الذى كان فيه العرب، بما فى ذلك الفلسطينيون، ينتقلون من روايتهم الأصلية إلى الرواية الوسط، كان الحكم فى إسرائيل يبتعد فى الاتجاه المعاكس. ابتعد حتى عن نفس صيغة الرواية الصهيونية التى كانت وراء نشأة إسرائيل، أى الصيغة التى أخذ بها زعماء الحركة الصهيونية من الاشتراكيين الذين أقاموا إسرائيل كدولة بالفعل وأسسوا حزب العمل الإسرائيلى. بتولى بنيامين نتنياهو رئاسة الوزراء للمرة الثانية فى عام 2009، وهى الرئاسة المستمرة حتى اليوم، اعتنق الحكم فى إسرائيل وبلا مواربة الأفكار المراجعة للحركة الصهيونية التى دعا إليها فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى زيف جابوتينسكى، وخلاصتها: أنه لا مجال لدولة عربية فى فلسطين بل إن الدولة اليهودية يجب أن تقوم على ضفتى نهر الأردن. صحيح أن الاستيطان فى الضفة الغربية بدأ وتوسع فى ظل حكومات حزب العمل. غير أن حزب العمل وصل فى التسعينيات إلى التردد بين مساندة الاستيطان وإدراكه أن مآل الاستيطان هو نشأة دولة واحدة يتفوق العرب فيها عددا بعد فترة فيحتم الإبقاء على يهودية الدولة أن يكون دولة فصل عنصرى (أبارتايد) سافر على غرار ما كانت عليه جنوب إفريقيا قبل نلسون مانديلا. أدرك حزب العمل أن هذا من شأنه أن تسوء سمعة إسرائيل فى المجتمع الدولى بأكثر مما هى سيئة، بشكل يضر بمصالحها ويصعب عليها معالجته. نتنياهو الليكودى لم يعبأ بما أقلق حزب العمل وأطلق العنان للحركة الاستيطانية التى لقيت الدعم والتمويل من جناح يمينى فى الحركة الصهيونية فى الولايات المتحدة. بالنسبة لحزب الليكود ولبنيامين نتنياهو وللحركة الاستيطانية ولليمين الصهيونى الأمريكى، الرواية هى أن أرض فلسطين كلها حق لليهود وحدهم، وأنه لا مكان فيها لدولة عربية، وبالتالى فلا حق للشعب الفلسطينى فى أن يطالب بأى شيء. أما إذا أصر على المطالبة، وتحرك ولو بشكل رمزى كما يفعل سكان غزة منذ 30 مارس الماضى، فهذا يعنى أنهم عن عمد يهددون أمن إسرائيل وأنه يحق لها إطلاق الرصاص عليهم وقتلهم. هذه أقصى الروايات التى اعتنقتها إسرائيل والحركة الصهيونية منذ نشأتها.
الإدارة الأمريكية الحالية تقبل هذه الرواية الإسرائيلية القصوى قبولا تاما وتحتفى بها وترسّخها. الرئيس الأمريكى الحالى، دونالد ترامب، عيّن سفيرا له فى إسرائيل أمريكيا من أنصار الحركة الاستيطانية ومموليها المتعصبين هو ديفيد فريدمان. وعيّن ممثلا خاصا له فى المفاوضات نصيرا آخر للحركة الاستيطانية هو جيسون جرينبلات. وأخيرا عيّن كمسئول عن الوصول إلى تسوية نهائية للصراع زوج ابنته، جاريد كوشنر، الذى عرفه نتنياهو طفلا يكبر، فهو صديق حميم لأسرته وثيقة الصلة بحزب الليكود. ويزيد الطين بلّة أن نائب الرئيس الأمريكى، مايكل بنس، من اليمين المسيحى الصهيونى الذى أعطى أصواته للمرشح ترامب فى سنة 2016 ويتطلع الرئيس ترامب للحصول على أصواته من جديد فى انتخابات الكونجرس فى شهر نوفمبر القادم ثم فى انتخابات التجديد له فى نوفمبر 2020. اليمين المسيحى الصهيونى أقلية بين أتباع الكنائس البروتستانتية فى الولايات المتحدة ولكنها أقلية مؤثرة. هو يعتقد أنه إن رجع كل اليهود إلى فلسطين، سيعود المسيح المنتظر إلى الأرض ويعمّ السلام. عندها يدعى اليهود إلى اعتناق المسيحية فإن لم يفعلوا فسيهلكون إلى الأبد فى النار، مع المسلمين والبوذيين والهندوس وغيرهم. لكل دينه اعتقاداته ولكن النتيجة السياسية لهذه المعتقدات هى إنكار أى حق للعرب فى فلسطين.
مساندة الاستيطان شيء طبيعى فى وجود الثلاثى كوشنر ــ فريدمان ــ جرينبلات، ومن ورائهم بنس، ناهيك عن جون بولتون مستشار الرئيس للأمن القومى. وطبيعى كذلك الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها والاحتفال بافتتاح هذه السفارة وسط الابتسامات والضحكات وتعابير الحبور والنشوة. فقط يصعب على العاقل فهم كيف يمكن أن يسهم الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها فى تيسير الوصول إلى السلام كما يدعون! هذا مجرد استهتار بعقول الآخرين وإهانة متعمدة لهم.
***
ولكن كل ما تقدم كوم ومواقف الغالبية العظمى من الدول العربية كوم ثانٍ. انظر إلى الابتسامات والضحكات فى اللقاءات مع ترامب والاحتفال به وتأييد مواقفه السياسية والمشتريات والهبات بمئات الآلاف من الملايين من الدولارات من الولايات المتحدة ولها دون ولو حتى طلب خجول بشأن الشعب الفلسطينى. وتمعّن فى قصص الصداقة الحميمة بين «قادة» عرب كبار وكوشنر. واقرأ عن ذلك المسئول العربى يقول إن ما يجمعنا بإسرائيل الكثير ولا يضيف إلا على سبيل سدّ الخانة أن عليها فقط أن تعترف بحقوق الفلسطينيين. وأندهش من وزير خارجية دولة عربية يبرر قتل الفلسطينيين الغاضبين المسجونين فى غزة «بحق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها». وأذهل من احتفال إسرائيل «بالعيد السبعين لاستقلالها» فى عاصمة أكبر دولة عربية بينما الفلسطينيون يقتلون بدم بارد على بعد بضع مئات من الكيلومترات. ولا يفوتك استضافة مسئول عربى لنتنياهو على مائدته. وتعجب من شلل نفس الدول أمام الاحتفال المخزى بافتتاح السفارة الأمريكية فى القدس الذى نددت به الصحافة الأمريكية والدولية المحترمة ذاتها. وأطلع على نفس الصحافة الأوروبية تندهش من البيانات الفاترة الصادرة عن وزارات الخارجية العربية عن قتل العشرات من سكان غزة وإصابة الآلاف منهم. وشاهد النائبة البريطانية تندد بأشد العبارات بالعنف الإسرائيلى وتطالب بتحقيق دولى فيه، وقارنه بالصمت المدوّى فى «البرلمانات» العربية.
***
هذه كلها مظاهر للقبول بالرواية الصهيونية القصوى، الليكودية الاستيطانية، للصراع على فلسطين. ندع عن أى اعتبارات أخلاقية جانبا ونتساءل عن مبررات المسئولين العرب البرجماتية الصرف للقبول بها. هل هى الالتقاء مع إسرائيل فى عداوة إيران وليتفرغوا معا لها؟ أم هى وضع حدّ للحرب والصراع فى الشرق الأوسط ليسمح لهم السلام بالتركيز فى التنمية وتحقيق التقدم والرفاهية لشعوبهم؟ إن كانت هذه أو تلك، فإن حساباتهم خاطئة. النزول على الرواية الصهيونية القصوى هو قبول بالهزيمة كاملة لروايتيهم الأصلية والوسط وهو يرتب أن تصير هذه الهزيمة القاعدة فى علاقاتهم بإسرائيل. أول أوجه الخطأ فى الحساب هو أن الفلسطينيين لن يقبلوا بهذه الهزيمة فليس لهم من ورائها أى فوز وهم سيقضون مضاجع من فرضها ومن قبلها. وجه ثانٍ هو أنه فى كل الخلافات المقبلة بين العرب وإسرائيل، ستفرض إسرائيل اختياراتها وسينطبق ذلك على المواجهة مع إيران كما على كل العلاقات السياسية والاقتصادية بينهم. لن يمكن لهذه القاعدة أن تصمد، لأنه ومع تزايد غرور إسرائيل بها، سيختل التوازن بينها وبين العرب بأكثر مما هم مختل، وسيستنكر العرب القاعدة بعد سنتين أو خمس أو عشر، فينكسر بذلك أساس علاقاتهم ويعود الصراع للاشتعال. أول من سيحدث معه ذلك هو مصر التى سيصل سكانها إلى ما فوق المائة وعشرين مليونا خلال عشر سنوات. ما لم تقبل مصر قاعدة التفوق المستمر لمصلحة إسرائيل واختياراتها، وهى لن يمكنها أن تقبل، فستستعر أسباب المواجهة بينهما من جديد.
السلام المنشود والمستدام بين العرب وإسرائيل لا بدّ أن يستند إلى رواية معقولة للصراع وتسويته، تحترم أطرافه وحقوقهم.