نشر موقع 180 مقالا للكاتب أمين قمورية، يقول فيه إن انتفاضة فلسطينيات وفلسطينيى الداخل أربكت العدو الصهيونى، وستمثل بداية تحولات جذرية ما كان يتوقعها المحتل الغاصب.. جاء فيه ما يلى.لا يوازى الربط الذى قامت به المقاومة فى غزة مع قضية القدس، إلّا تفجُر الاحتقان الكبير فى المناطق المحتلة عام 1948، الأمر الذى أدخل عاملا مؤثرا فى المعادلات المستقبلية وبدّد الوهم بأن الهوية الوطنية لعرب 48 يمكن أن تكون موضع شك أو مقايضة.
أرادت إسرائيل فى ذكرى النكبة أن تضيف إلى السجل الحافل لارتكاباتها نكبة جديدة، لكنها فوجئت كما العالم، ليس فقط بكثافة الصواريخ الحربية التى أطلقت من القطاع المحاصر، بل بقنابل الغضب البشرية التى تفجّرت فى وجهها فى اللد وحيفا وعكا وقرى النقب، حيث اعتقدت أنها استطاعت فى 73 سنة من الاحتلال والقمع والترهيب والترغيب، اقتلاع جذوة المقاومة والروح من أحفاد أصحاب الأرض الذين لم يتخلوا عن أرضهم وبيوتهم.. وكرامتهم. أسّست انتفاضة فلسطينيات وفلسطينيى العام 1948 بترابطها الوثيق مع انتفاضة حى الشيخ جراح وباب العمود والأقصى والضفة وانتفاضة صواريخ غزة وتضامن الشتات، لما يمكن وصفه بأنه محطة مفصلية تقطع مع ما سبقها وتؤسس لما بعدها، ذلك أنها المرة الأولى التى يظهر فيها الشعب الفلسطينى موحدا فى القطاع والضفة والقدس والداخل والمنافى، برغم كل محاولات شق صفوفه وتجزئة برنامجه النضالى، ولا سيما منذ نهاية الستينيات مرورا بأوسلو وصولا إلى التفريق بين أبناء الشعب الواحد سواء ببطاقات هوية متعددة الألوان، أو بتركيبات سلطوية مختلفة الأهداف والتوجهات، أو بأحزاب وقيادات محلية متناحرة. فى المحصلة، لا النكبة، ولا النكسة، ولا الأشهر السود، ولا اتفاقات أوسلو، استطاعت أن تمس بالعنفوان الوطنى الفلسطينى.
فى أسبوع واحد، شطب الشعب الفلسطينى «الخط الأخضر» وخرائط أوسلو وبقية خطوط التجزئة والكانتونات المرسومة سلفا فى الغرف السود، وإذا كانت إسرائيل هى التى بادرت إلى إزالة هذا الخط، طمعا فى الضم والاستيلاء على المزيد من الأراضى وتبديد حقوق أهل الأرض، فإن الشعب الفلسطينى داس هذه الحدود بأقدامه، من أجل بعث وحدته الوطنية، على أرضه التاريخية، فى مواجهة التطهير العرقى والابتلاع والتبديد والتهويد والأسرلة.
***
صواريخ غزة ستتوقف عاجلا أم آجلا، بموجب قواعد اشتباك جديدة تحاول المقاومة الفلسطينية فرضها، أما تمرد أهل الداخل، فليس إلا مؤشرا إلى بداية تحولات جذرية، هى آخر ما كان يتوقعه آباء المشروع الصهيونى، ذلك أن رهان هؤلاء على اعتبار الجغرافيا عاملا قابلا للتلاعب والتغيير، تبدد مع عودة التواصل من خلف الجدار بين البحر والنهر، بين اللد وطولكرم، بين حيفا وغزة، بين النقب والغور، ذلك أن الوجع فى حى الشيخ جراح وباب العمود كان أنينه يخترق أجساد الشابات والشباب فى أم الفحم وسحنين وبنات وأبناء المخيمات فى خان يونس وصبرا وشاتيلا وعين الحلوة، فيتفجرون غضبا وألما وتضامنا.
انتفاضة أهل الداخل، ستعزز شوكة دعاة «يهودية الدولة» فى إسرائيل، وتمدهم بالمزيد من الذرائع والحجج لتبرير تطرفهم وارتكاباتهم، لكن مشروعا كهذا يحمل فى طيّاته عناصر موته قبل الولادة، ذلك أن الترحيل والإحلال والتطهير العرقى والدينى لم يعد ممكنا، فالاحتلال نفسه يدفع اليوم ثمن ثبات الشعب الفلسطينى فى كل زاوية من أرضه، فوجوده أصيل وليس مؤقتا، ولديه كل الحوافز لمعاندة الاحتلال. أظهر أن سكونه فى المراحل السابقة كان صبرا ولم يكن خضوعا أو إذعانا، وأن تدجين بعضه هو الشواذ وليس القاعدة. لم يردعه جنون عصابات المتطرفين اليهود الفالتين فى الشوارع بلا رادع. ما يجرى فى الداخل وسط انقسام إسرائيلى غير مسبوق، هو مشهد لا يسر المحتل، فقد كتبت صحيفة «الجيروزاليم بوست» أن التعايش العربى واليهودى فى إسرائيل «أصبح على حافة السكين». هذا ليس مجرد إنذار، إنه تحذير، إنه تصحيح للصورة المزيفة التى ساقتها إسرائيل، بأن أهل الداخل هم «عرب» دولتها وأنهم يتمتعون بكل حقوق المواطنة والانتخاب والترشح فى نظام ديموقراطى، فإذا بانتفاضتهم تكشف بالملموس أنهم يتعرضون للتنكيل المنهجى، وأنهم مواطنون من درجة ثالثة وليس ثانية بعد اليهود الغربيين واليهود الشرقيين، وقد مارست الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسات تضييق الخناق عليهم، واستهداف وجودهم ورأتهم خطرا دائما على أمنها واقتصادها وخريطتها الديموغرافية، وحاولت تنفيذ أكثر من خطة تهجير قسرية ومصادرة أراضيهم. لكن برغم الوضع الشائك الذى يعيشونه كأقلية فى دولة عدوة لأبناء جلدتهم ولامتدادهم العربى، يصرون على بقائهم ويحافظون على تقاليدهم وتراثهم وحياتهم الخاصة ولغتهم العربية وبرامج تعليمهم ومنافسة الإسرائيلى فى الطب والعلوم والفنون والأدب والحرف.
***
لم يصادق الكنيست عبثا على قانون النكبة العنصرى والمتطرف، ذلك أن نشاط فلسطينيات وفلسطينيى الداخل فى تعزيز ثقافتهم وروايتهم لمأساتهم أقلق المؤسسة الإسرائيلية فاستعانت بالقوانين لشل إمكاناتهم وطموحاتهم الوطنية. كما أن هؤلاء عمدوا إلى تثبيت فلسطينيتهم فى كل مناسبة، ولعل إبدالهم عبارة ما يسمى «يوم استقلال إسرائيل» بشعار «يوم استقلالكم هو يوم نكبتنا» أدى إلى تفاقم سياسة التمييز والعداء بينهم وبين المؤسسة الإسرائيلية.. وفى كل سنة يدشنون مسيرة إلى بلدات هجرت عام 48، ليس فقط لإحياء ذكرى النكبة والإصرار على «حق العودة»، وإنما أيضا لإبقاء تراثهم وقضية بنات وأبناء شعبهم الفلسطينى على رأس أجندتهم السياسية وفى عقول الأجيال المقبلة.
هؤلاء هم الطليعة الفلسطينية المتقدمة، لذا فإن إسرائيل تخشاهم أكثر من سواهم وأترابهم، وقد حذر من ذلك رئيس الاستخبارات الأسبق يوسف هيرلمن بقوله: «إذا قرر عرب إسرائيل الصعود إلى المتاريس سينشأ خطر جسيم على أمن المواطنين اليهود، ذلك أنهم لا يحتاجون إلى اجتياز الحدود كى ينفذوا عمليات تخريبية فهم موجودون فى قلب الدولة». ما جرى فى قلب فلسطين، يعيد الأمور إلى سياقها الحقيقى. أولا؛ بأن أهل الداخل هم مكون أصيل من الشعب الفلسطينى، وقضيتهم هى أيضا جزء أصيل من القضية الأم وليس فرعا منها، وعليه، فإن أى قرار سياسى فلسطينى لا يشاركون فى صنعه هو قرار ناقص، وأى برنامج للعمل الوطنى الفلسطينى، لا يأخذ فى الاعتبار رؤيتهم وخصوصيتهم ودورهم المركزى فى القضية، هو برنامج قاصر. ثانيا؛ على المعنيين والمعنيات بالقضية الفلسطينية والمناصرين والمناصرات لها، عربا أم أجانب، عدم إهمال هذا المكون الأساسى من مكونات القضية الأم، بل الحامى المركزى للهوية والإرث الفلسطينى. وبالتالى، هؤلاء هم أكثر من يستحق الدعم لأنهم الأكثر استهدافا كونهم فى قلب المواجهة وفى صفوفها الأمامية، وفى المقابل، يتعين عليهم أن يكونوا الأحرص على تنظيم صفوفهم وتحديد أشكال نضالهم حتى لا يسهل كسرهم وتشريدهم. ثالثا؛ أى تعامل مع الفلسطينيين والفلسطينيات فى الداخل يجب أن يكون مرتبطا بحل شامل للقضية الفلسطينية، وأى تسوية عامة تسقطهم من حساباتها هى تسوية ناقصة ومبتورة.
النص الأصلى:
https://bit.ly/3wg0u8J