مأسسة الدين.. وتفكيك المجتمع
سامح فوزي
آخر تحديث:
السبت 19 يونيو 2010 - 10:14 ص
بتوقيت القاهرة
المجتمع المصرى متدين بالفطرة، هكذا نسمع، ونقرأ. المؤسسات الدينية راسخة، وتزداد رسوخا يوما بعد يوم. ولكن الشعب المتدين يزداد تفككا، وأحوال المجتمع تضطرب أكثر من ذى قبل. ماذا جرى لهذا المجتمع؟ لماذا المؤسسات الدينية تتنامى، فى حين أن الخطابات الدينية الرائجة محافظة، لا تشجع على التغيير الاجتماعى؟ بصيغة أخرى لماذا يزداد الدين تمأسسا والمجتمع تفككا؟
فى دراسة للباحث «كرستوفر كاندلاند» حول «الإيمان والتغيير الاجتماعى فى جنوب آسيا» نجد مقارنة بين عدة حالات هى باكستان، وتايلاند، وإندونيسيا، وسيريلانكا، بالاستناد إلى عدد من المقابلات مع مسئولين حكوميين، والمجتمع المدنى، والمؤسسات الدينية، والجامعات، والعاملين فى مجال الإعلام. وانتهى الباحث إلى أنه فى كل من تايلاند وباكستان حيث تعتمد الدولة بصورة مكثفة على ما سماه «الدين المدنى» فى تبرير السياسات واكتساب الشرعية فإن المؤسسات الدينية لا تلعب دورا واضحا فى التغيير الاجتماعى، والتنمية المجتمعية.
على العكس من ذلك، فإن الدولة فى إندونيسيا وسيرلانكا لا تنحاز إلى وجود «دين مدنى» لها، وهو ما أدى إلى أن تكون المؤسسات الدينية أكثر قدرة على لعب دور مؤثر فى عملية التغيير الاجتماعى، والتنمية بمفهومها الواسع. وبشكل أكثر تدقيقا، فإذا نظرنا إلى كل من باكستان وإندونيسيا، حيث إن الغالبية العظمى من سكان كل من الدولتين من المسلمين، إلا أن دور المؤسسات الدينية فى عملية التغيير الاجتماعى فى كل منهما يختلف اختلافا جذريا. فى باكستان سعت الحكومات المتعاقبة منذ تأسيس الدولة عقب انفصالها عن الهند عام 1947م إلى اعتبار الدين «قوة محافظة» وليست «تغييرية» فى المجتمع، وغلب على خطاب السلطة مسحة دينية ذات طبيعة محافظة، وتوظيف واضح للدين فى اكتساب الشرعية السياسية. ويشار فى ذلك تحديدا إلى عام 1980م حيث قامت الحكومة بتقنين جمع الزكاة من المواطنين، وشكلت لجانا محلية بلغ عددها اثنتين وثلاثين ألفا لتوزيع أموال الزكاة تحت سلطة الدولة.
وتبلغ الأموال التى يجرى جمعها ملايين الدولارات، توزع فى وجوهها الشرعية المعروفة على الفقراء والأيتام والعجزة، إلا أن قطاعا من المواطنين يشكو الاعتبارات السياسية فى توزيع أموال الزكاة بما يعود بالنفع على الحكومة فى تدعيم شرعيتها، وتغلغلها فى المجتمع. خلافا لذلك تأتى إندونيسيا التى تعاقب على حكمها منذ الاستقلال عن عام 1945م عدة زعماء مثل سوكارنو (1945/1966م)، وسوهارتو (1966/1998م) والذى خلفه الرئيس عبد الرحمن وحيد، حيث اعتمدت مفهوم «الإله الواحد»، ولم تفصح عن هويته، وهو ما يغضب بالطبع قطاعا عريضا من المؤسسات الإسلامية. وبرغم ذلك تبدو فى إندونيسيا، على عكس باكستان، المنظمات الدينية أكثر نشاطا، وحضورا فى عملية التغيير الاجتماعى.
هذه الدراسة، رغم ما قد يرد عليها من انتقادات، لفتت الانتباه إلى أهمية الدور الذى يمكن أن تقوم به المؤسسات الدينية فى المجتمع فى عملية التغيير الاجتماعى، حيث إن الدول التى تستند فى سياساتها إلى وجود دين لها، وتسعى إلى تكثيف توظيفه بشكل محافظ فى إنتاج الشرعية السياسية فإن المؤسسات الدينية بها قد يعتريها الضعف فى التغيير الاجتماعى.
هذه الظاهرة ليست حكرا على المجتمعات الإسلامية، التى تنزع فى غالبيتها السلطة السياسية إلى توظيف الدين فى اكتساب الشرعية السياسية، فقد نبه «روبرت بوتنام» إلى هذه الظاهرة فى دراسته الشهيرة حول شمال وجنوب إيطاليا عام 1993م إلى أن مأسسة الدين، مثل الكاثوليكية فى إيطاليا، شكلت ــ حسب وصفه ــ مصدرا فقيرا فى إنتاج رأس المال الاجتماعى. وأضاف أن كثافة التردد على الكنيسة فى جنوب إيطاليا، خلافا لشمالها، أدى إلى انصراف الأفراد عن المشاركة فى الهيئات المدنية.
لا يبدو أن المجتمع المصرى بعيدا عن هذا السجال. المؤسسات الإسلامية والمسيحية تزداد ثقلا فى المجتمع، فى حين أن أوصال المجتمع تتفكك. ولم يعد متصورا أن تلعب هذه المؤسسات دورا فى التغيير الاجتماعى. خذ مثالا على ذلك الموقف من الحراك السياسى. منذ نحو خمسة أعوام أو ما يزيد يشهد المجتمع حالة من الحراك السياسى، تتمثل فى تصاعد الخطاب الداعى إلى المشاركة، واحترام حقوق الإنسان، وحرية تشكيل الأحزاب، وبروز الحركات الاجتماعية، والمطالبة الصريحة بتداول السلطة.
فى كل هذا الخضم من الجدل كان صوت المؤسسة الدينية، إسلامية ومسيحية خافتا. بالطبع لا نسعى إلى الزج بالمؤسسة الدينية فى أتون السياسة، ولكن ما نطالب به هو خطاب دينى يحث على المشاركة، والتغيير، واستلهام القيم الروحية والإنسانية فى الهندسة الاجتماعية والسياسية.
وإذا تركنا السياسة، فإن الخطابات الاجتماعية الدينية لم تبرح مفهوم «العطاء» و«التعاضد»، وهى مفاهيم مهمة، لكنها لا ترقى إلى مستوى الخطاب الداعى إلى التنمية بمفهومها الشامل، والذى يمكن الفرد من الارتقاء بنوعية الحياة. أكثر من ذلك، فإن خطورة هذا الخطاب أنه يثبت الأوضاع الاجتماعية المختلة القائمة فى المجتمع المصرى، عن طريق حث الأغنياء على تقديم المساعدة الاجتماعية للفقراء دون أن يطرح خطابات أكثر شمولا حول أهمية إشراك قطاعات أوسع من المواطنين فى التمتع بثروات وموارد المجتمع. باختصار فإن الخطابات الدينية المؤسسية الرائجة لم تعد تحث على التغيير الاجتماعى، بجناحيه السياسى والسوسيولوجى، بل تثبت الأوضاع القائمة بالرغم من اختلالها وقساوتها.
المجتمع فى حالة تفكك حقيقى. وبينما تزداد المؤسسات الدينية ثقلا، تتفاعل فى المجتمع عوامل التفكيك. فى هذا المشهد من الطبيعى أن يطرح تساؤل مهم: لماذا تترسخ المؤسسات الدينية فى جذور المجتمع المصرى بينما المتدينون، أى جمهورها الأساسى يعيشون فى حالة تفكك وتفسخ واضطراب؟ السؤال صعب، ولكن قد تكون إجابته فى أن الدين هو مصدر الشرعية السياسية، وأداة المحافظة الرئيسية فى المجتمع، ليس فقط على الجانب الإسلامى، لكن أيضا على الجانب المسيحي.
وما يجرى الآن فى المناقشات حول القانون الموحد للأحوال الشخصية لغير المسلمين يثبت بجلاء أن المواطن نفسه خارج سياق الحوار، فلا يوجد من يمثل المجتمع المدنى بجميع فصائله أو المواطنين أنفسهم فى هذا الحوار، وكأن المسألة برمتها علاقة بين دولة وعدد من الطوائف المسيحية، والهدف الأساسى من هذه العملية هو مزيد من إحكام الولاية الدينية على الشخص، طالما أنها مدخل أساسى لتحقيق الولاية السياسية.
مرة أخرى، إنه التصور الأساسى الحاكم أن يتصدر الدين الموقع الرئيسى فى البناء السياسى، تحقيقا للشرعية والمحافظة فى المجتمع، وتكون المؤسسات الدينية هى أساس تحقيق ذلك. وفى الوقت نفسه يبدو أن المجتمع يتداعى تدريجيا، دون أن يكون للدين دور فى الدفع بعملية التغيير الاجتماعى، ليس هذا فحسب بل حتى الحفاظ على وحدة المجتمع ذاته.