الجواسيس الذين أحبونا

توماس فريدمان
توماس فريدمان

آخر تحديث: الإثنين 19 يوليه 2010 - 9:47 ص بتوقيت القاهرة

 كنت فى عطلة من العمل عندما نشر خبر توجيه اتهام إلى 11 روسيا بأنهم عملاء خاملين زرعتهم وكالة الجواسيس الروسية فى أمريكا، بغرض جمع معلومات استخباراتية حول الولايات المتحدة وتجنيد جواسيس مزدوجين يمكنهم الوصول إلى أدق أسرارنا.

وكان أول رد فعل لى: ربما تكون هذه أعظم هدية تقدمها دولة أجنبية لأمريكا منذ أن منحتنا فرنسا تمثال الحرية. مازال هناك من يرغب فى التجسس علينا! ففى الوقت الذى كنا نشعر فيه بالإحباط والتجاهل، ظهر الروس وقالوا لنا إن الأمر يستحق إغداق الأموال الهائلة من أجل زرع أشخاص فى مراكز الأبحاث لدينا.

وبغض النظر عن أزمة الرهون العقارية، هناك من يعتقد أننا مازلنا نمتلك الأشياء الصحيحة. فشكرا لك يا فلاديمير بوتين!

وبعد تفكير، خطر على ذهنى أن القصة تشمل فعليا خبرا جيدا وسيئا فى الوقت نفسه. والخبر الجيد أنه ما زال هناك من يريدون التجسس علينا، أما السيئ فهو أنهم الروس.

انظر، لو كنت قد أخبرتنى أننا اعتقلنا 11 فنلنديا يتجسسون على مدارسنا، لكنت شعرت بالسرور فعلا ــ حيث تتربع المدارس الحكومية فى فنلندا دائما على قمة ترتيب مستوى التعليم فى العالم. ولو أخبرتنى أن 11 سنغافوريا اعتُقِلوا لأنهم يتجسسون على أسلوب عمل حكومتنا، لشعرت بالسرور حقا ــ لأن سنغافورة لديها واحد من أنظف وأكفأ الأجهزة الحكومية فى العالم، وتدفع لكل وزير فى حكومتها ما يزيد على المليون دولار سنويّا. ولو كنت أخبرتنى أن 11 صينيّا من هونج كونج اعتُقِلوا بتهمة دراسة أسلوب تنظيمنا لأسواقنا المالية، لشعرت بالسرور فعلا ـ حيث إن هونج كونج متفوقة فى هذا المجال. ولو كنت أبلغتنى أن 11 كوريّا جنوبيّا اعتُقِلوا بتهمة دراسة سر سرعتنا فى اختراق الإنترنت، لشعرت بالسرور بالفعل ــ لأننا متأخرون عنهم فى ذلك كثيرا.

لكن الروس؟ من الذى يود أن يتجسس هؤلاء عليه؟
لولا النفط والغاز وصادرات المعادن، لكان الاقتصاد الروسى انكمش بأكثر مما هو عليه الآن. ولعل أكثر صادرات موسكو شعبية اليوم هى نفس صادرات عهد جورباتشوف: الفودكا وعرائس الماتريوشكا ومدافع الكلاشنكوف. وتعطى قصة التجسس هذه برمتها شعورا بأنها واحدة من بطولات التنس القديمة ــ جون ماك إنرو فى مواجهة جيمى كونورز بعد فترة طويلة من زمن تألقهما ــ أو ربما مباراة إعادة بين فلويد باترسون وسونى ليستون وهما فى سن الستين. هذا ما يجعلك تريد تقريبا أن تحول بصرك عنه، وأن تقول أيضا لبوتين: هل تقصد أنكم لم تفهموا بعد؟

إن كل ما يحتاج الروس معرفته عنا ــ المصدر الحقيقى لقوتنا ــ لا يحتاج خلية نائمة لاختراقه. وهم ليسوا بحاجة إلا إلى مرشد سياحى فى واشنطن العاصمة، يمكنك أن تستأجره بأقل من عشرة دولارات. فمعظم هذه الأشياء موجودة فى إدارة المحفوظات الوطنية: فى وثيقة الحقوق، وفى الدستور، وفى إعلان الاستقلال. ويكمن بقية ما يريدونه فى قلب ثقافتنا، ويمكن أن نجده فى كل مكان، من وادى السليكون إلى طريق 128 بالقرب من بوسطن. إنه الالتزام بالحرية الشخصية والسوق الحرة وحكم القانون وجامعات الأبحاث الكبرى والثقافة التى تحتفى بالمهاجرين والمخترعين.

والآن، إذا بدأ الروس العثور على كل هذه الأشياء ونقلوها إلى بلدهم، فسوف يتعين علينا حينئذ النظر إليهم بجدية أكبر كمنافسين. ولكن ليس هناك ما يدل على ذلك. وبالفعل، كما لاحظ ليون آرون مدير الدراسات الروسية فى أمريكان إنتربرايز إنستيتيوت، فى مقال كتبه مؤخرا، لقد أعلن الرئيس الروسى ديمترى ميدفيديف لتوه عن خطط لإقامة «مدنية الاختراعات»، فى سكولكوفو، خارج موسكو. ومن المخطط أن تُدار «مدينة التكنولوجيا» هذه باعتبارها منطقة حرة للمؤسسات، تجذب أفضل المواهب فى العالم.

ويلاحظ أرون أن هناك مشكلة واحدة: «كان استيراد الأفكار والتكنولوجيا من الغرب عنصرا أساسيا فى «عمليات تحديث» روسيا، على الأقل منذ عصر بطرس الأكبر أوائل القرن الثامن عشر.. لكن روسيا ظلت تقيد وارداتها بإحكام: نعم لاستيراد الآلات والمهندسين، أما استيراد روح حرية البحث، والالتزام بتحرير الاختراع من «الإرشاد» البيروقراطى، والأهم من ذلك تشجيع رجال الأعمال من ذوى الشجاعة، والإقدام، الذين يمكنهم الثقة فى أنهم سوف يمتلكون نتاج عملهم، فلا بكل تأكيد. لكن بطرس ومن جاءوا بعده أرادوا جنى الثمار من دون زرع الجذور.. فلا يستطيع بناء وادى السليكون سوى الرجال والنساء المتحررين من الخوف والمراقبة.

ومن الصعوبة بمكان العثور على أمثال هؤلاء الرجال والنساء فى روسيا اليوم.. ونظرا لأن رجال الأعمال الروس يشعرون بالنفور إزاء غياب القانون وانتشار الفساد.. فإنهم قلما يستثمرون فى بلدهم فيما يتجاوز احتياجاتهم الإنتاجية المباشرة».

إن كل ما ينبغى أن يريده الروس منا هو أمور لا يحتاجون إلى سرقتها. كما أنها أشياء يتعين علينا الاحتفاء بها وصيانتها، غير أننا توقفنا عن ذلك مؤخرا. وتتمثل هذه الأشياء فى فتح أبواب الهجرة، والتميز التعليمى، وثقافة الابتكار، والنظام المالى الهادف إلى التشجيع على التدمير الخلاق، لا «الخَلْق المدمِّر»، على حد قول الخبير الاقتصادى جاجديش بهاجواتى.
نعم، دعونا نبادل جواسيسهم بجواسيسنا.

لكن دعونا نتذكر أيضا أنه لا يشرفنا أن يتجسس الروس علينا اليوم. إنها مجرد عادة قديمة. لأنهم لم يعودوا أندادا لنا سوى فى مجال الأسلحة النووية التى لا يتوقع استخدامها أبدا. فالبلدان التى ينبغى أن نقلق منها هى تلك البلدان التى ينازلنا معلموها وبيروقراطيوها ومدخروها ومستثمروها ومخترعوها ــ لا جواسيسها ــ فى ملعبنا فى وضح النهار.
New York Times

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved