سعيكم مشكور يا سيد بايدن
سيد قاسم المصري
آخر تحديث:
الثلاثاء 19 يوليه 2022 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
الذى تابع زيارة الرئيس الأمريكى بايدن إلى إسرائيل التى دامت نحو 48 ساعة ثم زيارته للضفة الغربية التى دامت نحو 45 دقيقة يلمس بوضوح جو الفرح والسعادة والاسترخاء والحميمية والربت على الظهور والضحكات الصادرة من القلب، والجو الاحتفالى الذى ساد خلال زيارته لإسرائيل بالمقارنة بالجو الحزين الكئيب الرسمى الثقيل الذى تميزت به زيارته القصيرة للجانب الفلسطينى، وكأن بايدن ذهب للتهنئة فى إسرائيل وللعزاء لدى الفلسطينيين.
حتى كلمات بايدن فى الجانب الفلسطينى كانت تتسم بالمواساة والدعوة للصبر على المكاره، فحملت كلمات الرئيس بايدن للفلسطينيين ما يدعوهم إلى النظر إلى التطور الإيجابى فى موقف الولايات المتحدة بالمقارنة بما عليه الوضع أثناء إدارة ترامب، فقد عادت الولايات المتحدة لتبنى حل الدولتين بعد أن تخلى عنه الرئيس السابق ترامب إلا أن الوقت غير مناسب الآن للتطبيق، وأيضا تعهدت إدارته بإعادة فتح القنصلية الأمريكية فى القدس الشرقية، فإن الوقت أيضا غير مناسب بالإضافة إلى اعتراض إسرائيل الشديد على قيام حليفتها أمريكا بفتح ممثلية لها فى عاصمة الدولة دون اعتماد حكومتها لها ولكن سيظل التعهد الأمريكى قائما، وبالنسبة لمطالبة الفلسطينيين بأن تكون القدس الشرقية المحتلة عاصمة لهم، والتى لم يعترف العالم باستثناء أمريكا وعدد قليل جدا من الدول بضم إسرائيل لها، عرضت الولايات المتحدة صيغة يصعب قبولها حيث إنها تعد الفلسطينيين بعاصمة لهم «فى القدس»، وهى صياغة تهدف إلى استبعاد حصول الفلسطينيين على القدس الشرقية كعاصمة لهم، فعبارة «فى القدس» يمكن أن تشمل أى قرية فى المحيط الإدارى الحالى أو المستقبلى للقدس، والخلاصة أن بايدن كان يواسى الفلسطينيين ويذكرهم بأنه قام بتغيير اتجاه السياسة الأمريكية التى اعتمدها كل الرؤساء الأمريكيين السابقين عدا ترامب وهى اعتماد حل الدولتين، إلا أن تعهدات بايدن هذه ستظل شعارات بعيدة المنال وفقا لما صرح به لأن «الوقت غير مناسب».
• • •
لقد ذكرنى ذلك بواقعة طريفة تروى عن أديبنا العظيم توفيق الحكيم الذى عرف عنه ــ سواء حقا أو تشنيعا ــ أنه بخيل، فقد حدث أن زاره بعض أصدقائه فى مكتبه فطلب لهم قهوة، وظلوا يتسامرون ولكن القهوة لا تجىء فأبدى أحدهم ملاحظة للتذكير بقهوتهم الموعودة، فقال لهم الحكيم ضاحكا «شوفوا طلب القهوة فى حد ذاته تكريم أما حضورها فتكريم آخر»، فهل يريد بايدن أن يكتفى الفلسطينيون برفع شعار حل الدولتين؟. يبدو ذلك فقد نصحهم بايدن بأن يركزوا على تحسين حياة المواطنين وأمورهم المعيشية وتحسين حركة تنقلهم وأمورهم الصحية والتعليمية وأعلن فى هذا الإطار أن الولايات المتحدة ستقدم منحة مقدارها 100 مليون دولار للقطاع الصحى الفلسطينى. وضعف هذا المبلغ لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (وهو أقل من المبالغ التى امتنعت أمريكا عن سدادها للوكالة بعد قرار ترامب بوقفها).
وهذا هو واجب العزاء الذى قام به بايدن فى زيارته الفلسطينية، العزاء بالكلام والعزاء بالمال، والعزاء بالمال يدور حول إقناعهم بقبول الأمر الواقع، وفى قرانا المصرية يوجد مثل هذا التقليد حيث يقوم الأثرياء بمواساة الأسرة المصابة بالكلام الطيب وبمبلغ من المال.
الفلسطينيون رفضوا هذه المواقف ولذا لم يصدر بيان مشترك عن الزيارة، وتم الاكتفاء بقيام كل رئيس بإلقاء كلمة استعرض فيها موقفه ثم توجه بايدن إلى غايته.
وكانت الغاية هى السعودية التى أوصاه لابيد بالسعى لتطبيع العلاقات معها، وبالفعل اتخذت السعودية خطوة عملاقة فى هذه السبيل وهى فتح الأجواء للطيران الإسرائيلى المدنى بوجه عام وليس لنقل الحجاج فقط كما قيل وذكر البيان الذى أصدرته هيئة الطيران المدنى السعودى أن ذلك جاء اتساقا مع تعهدات السعودية بموجب اتفاقية شيكاغو الدولية لعام 1944 وهى الاتفاقية المنشئة لمنظمة الطيران المدنى الدولية (الإيكاو) وكأن هيئة الطيران السعودية تنبهت الآن فقط إلى هذا الالتزام بعد مرور 78 سنة على إبرام الاتفاقية، وقد حرصت السعودية على الإعلان عن هذه الخطوة قبل وصول بايدن إليها وتلك كانت هى الخطوة الوحيدة الملموسة التى نجمت عن الاجتماع، أما محصلة الزيارة التى دامت يومين فأقل ما كان يتوقعه بايدن.
فلم يتحقق مشروع الحلف الأمنى الذى يضم العرب وإسرائيل بل إن تعيين إيران كالعدو الأساسى ومصدر الخطر الأول لم يتحقق أيضا حيث أشار بن سلمان فى كلمته الافتتاحية فى القمة إلى إيران بعبارة «الجارة التى تجمعنا بها روابط ثقافية ودينية»، كما أشار الجميع خصوصا الرئيس السيسى والملك حسين وأمير قطر إلى استمرار القضية الفلسطينية كقضية العرب الأولى وأن الاستقرار الحقيقى لن يتحقق إلا بالحل العادل لهذه القضية ونبه أمير قطر إلى «أننا ــ أى العرب ــ لدينا رأى عام كما لديكم (أى الأمريكيون)».
وقد طرأ تحول فى أسلوب تعامل العرب مع أمريكا، فقد لاحظ المراقبون تغيرا ملحوظا فى أسلوب السمع والطاعة الذى تعودت عليه أمريكا منذ عقود، فبالنسبة لموضوع النفط مثلا أعلنت السعودية أن مكان بحث هذا الموضوع هو اجتماعات الأوبك أو الأوبك بلاس وفقا لمقتضيات السوق، كما أكد بن سلمان أن السعودية لا تستطيع تجاوز حد الـ13 مليون برميل يوميا وهو الحد الأقصى للإنتاج الذى تسمح به الإمكانيات.
ولم تحقق الزيارة أحد أهم أهدافها، فقد كان بايدن يأمل أن تضع القمة أولى اللبنات لتحالف إقليمى أمنى يضم إسرائيل ولكن ذلك لم يحدث، بل إن وزير الخارجية السعودى صرح بأن الموضوع لم يكن ضمن جدول الأعمال وأضاف أنه «لا يوجد شىء اسمه ناتو عربى» كما لم ينجح بايدن فى الحصول على إدانة للغزو الروسى حيث تضمن البيان المشترك الصادر عن القمة فقرة تناشد المجتمع الدولى تكثيف الجهود للتوصل إلى حل سلمى للمشكلة.
• • •
لقد كانت زيارة الرئيس الأمريكى للشرق الأوسط هذه المرة من أثقل المهام على قلبه، فقد اضطرته الظروف وعلى رأسها الغزو الروسى لأوكرانيا وما ترتب عليه من آثار على الاقتصاد العالمى، إلى ابتلاع كرامته وتعهداته السابقة التى أكدها مرارا سواء خلال الحملة الانتخابية أو بعد توليه الرئاسة وهى التى أعلن فيها بوضوح أنه لن يتعامل مع محمد بن سلمان وأنه سيجعله «منبوذا» فى العالم واتهمه صراحة بالمسئولية المباشرة عن قتل الصحفى السعودى ذى الجنسية الأمريكية جمال خاشقجى، وقد تعرض بايدن إلى مواقف محرجة وأسئلة ثقيلة من الصحفيين فى هذا المضمار.
وفى محاولته لإيجاد غطاء يحفظ شيئا من كرامته أعلن أنه فتح الموضوع مع بن سلمان وأبلغه صراحة أنه متورط شخصيا فى هذه الجريمة الشنعاء وأن بن سلمان نفى تورطه الشخصى فيها وقال إن تلك كانت حقبة مؤلمة لبلاده وأن بن سلمان أضاف بأن هذه الغلطة لن تتكرر مرة أخرى وأن الدول تخطئ أحيانا كما أخطأت الولايات المتحدة بغزوها العراق، ولعل أكثر ما يثير السخرية هو ما ذكره بايدن من أنه قال لبن سلمان «أرجو ألا يتكرر ذلك فى المستقبل لأنه لو تكرر فإن الولايات المتحدة ستتخذ إجراءات»، (يعنى ماتعملش كده تانى)، وقد علقت السيدة التى كانت مخطوبة للسيد خاشقجى بقولها «بل ستتكرر وسيكون دماء هؤلاء فى رقبتك يا سيد بايدن».
• • •
ويا ليت بايدن وجه مثل هذا الكلام لإسرائيل فى موضوع مقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، بل إنه لم يستجب لطلب الأسرة مقابلته وكلف وزير خارجيته بالاتصال بهم تليفونيا ودعوتهم للولايات المتحدة وذلك تجنبا لمزيد من تسليط الأضواء الإعلامية على الموضوع وتجنبا لإحراج إسرائيل. أنا بدورى أعزيك وأواسيك يا سيد بايدن ببيت من أبيات المتنبى الذى يقول فيه:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى.. عدوا له ما من صداقته بد