الولايات المتحدة أقل بياضـًا
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 19 أغسطس 2010 - 10:28 ص
بتوقيت القاهرة
مزاج أمريكا ليس فى أفضل أحواله. لن تختلف آراء كثيرة حول هذا التقويم لحال أمريكا الآن. المقصود بشكل عام هو الميل الواضح والمتزايد بين الجمهور الأمريكى للتشاؤم واهتزاز الثقة بالمستقبل وكلاهما من الظواهر الجديدة فى أمريكا. والمقصود بشكل خاص هو الميل الواضح والمتزايد أيضا بين المنتمين إلى ما يسمى بتيارات الوسط فى أمريكا، وبخاصة يمين الوسط نحو يمين أشد تطرفا.
ينعكس هذا الميل فى أشكال أهمها، ولعله أخطرها، انتعاش الأفكار والممارسات العنصرية. ليس هذا حكما يردد أصداء الحملة ضد إقامة مركز إسلامى فى مكان قريب من موقع بنايتى مركز التجارة العالمية اللتين دمرتا فى 11 سبتمبر 2001، ولكنه حصيلة متابعة لتصرفات أعداد متزايدة من المواطنين الأمريكيين تجاه الأجانب عموما والمهاجرين خصوصا.
نستطيع بسهولة أن نجد أسبابا، ولا أقول مبررات، للتحول الجارى فى المزاج الأمريكى، أعرض منها على سبيل المثال وبإيجاز خمسة:
أولا: تركت الأزمة المالية والاقتصادية العنيفة آثارا مهمة فى الاقتصاد الأمريكى، وآثارا خطيرة على «النفس الأمريكية» والعلاقات داخل المجتمع. يكفى كنموذج الأثر المترتب عن اكتشاف الأمريكيين هشاشة نظامهم المصرفى وخيبة أملهم فى حكمة النخبة السياسية الحاكمة وفى عبقرية المسئولين عن الاقتصاد من أكاديميين وأباطرة المال والأعمال.
ثانيا: فى الوقت نفسه، كان الأمريكيون يكتشفون حقيقة أذهلتهم وهى أن إمكاناتهم وثرواتهم ليست لا نهائية، وبالتالى فإن الوضع الجيوستراتيجى الذى تمتعت به الولايات المتحدة لم يعد استثنائيا، وأن حلم المستوطنين الأوروبيين عن «المدينة فوق التل» تحققه الآن شعوب عديدة. تعددت فى وقت قصير جدا المؤشرات التى تؤكد هذه الاكتشافات وتدفع الرأى العام الأمريكى نحو الاقتناع بأن أمريكا «المثالية والمعجزة والاستثنائية» تتطور أو تنحدر إلى مكانة «الدولة الكبيرة العادية».
ثالثا: «لم يتصور الأمريكيون يوما أن حربا يقررون شنها أو الدخول فيها تبقى مشتعلة وغير محسوم مصيرها عقدا كاملا. لا مغزى للوضع الذى تجد أمريكا نفسها فيه فى أفغانستان سوى أن هذه الدولة «الأعظم والفائقة القدرات المادية» ليست قادرة على فرض الهزيمة العسكرية على «عدو من عامة الأمم» ولم تعد قادرة على إنهاء حرب بطرق أخرى. وعلى صعيد آخر، يوجد من يفسر تردد أو ارتباك الرئيس أوباما فى التعامل مع إيران، بأنه يخفى عجزا أمريكيا واضحا فى الاستخدام الأمثل لعناصر القوة الرخوة لإجبار إيران على التراجع عن سياساتها النووية أو تغيير الحكم فيها، وأنه بذلك السلوك المرتبك تتشجع إسرائيل وتوابعها من المحافظين الجدد على حشد الرأى العام لشن حرب ضد إيران.
رابعا: شعور متزايد لدى الجماعة الأمريكية ذات الأصول الأنجلو سكسونية بأن أمريكا تغير لونها وبسرعة مخيفة. هذه الجماعة، أو تيارات مؤثرة فيها، كانت فيما مضى تخاف من الزيادة الطبيعية فى مواليد السود الأمريكيين قبل أن يتبين لها أن هذه الزيادة لن تغير جذريا لون أمريكا. اطمأنت الجماعة الأنجلو سكسونية وقتها إلى أن لغة البيض ستبقى اللغة السائدة وكذلك عقائدهم الدينية وريادتهم الاجتماعية والسياسية.
دعم هذا الاطمئنان أن سباقات القوة والمنافسات الدولية كانت تجرى غالبا بين بيض وبيض، حتى الحروب الأعظم وآخرها الحرب الباردة دارت بين البيض. اختلف الأمر واختل اطمئنان الرجل الأبيض بعد أن تجاوز الصعود الآسيوى كل التوقعات وبخاصة حين فقد الغرب حق الانفراد بتسيير دفة الاقتصاد العالمى واستغلال مواقع الثروة والمواد الخام فى أفريقيا وأمريكا اللاتينية. واختل اطمئنانه مرة أخرى حين أدرك أن اللغة الإسبانية أزاحت اللغة الإنجليزية فى عدد من الولايات الأمريكية.
خامسا: أدى حصول باراك حسين أوباما على منصب رئيس الجمهورية إلى انكشاف أركان «العنصرية» الكامنة فى أيديولوجية وسلوكيات فئات مهيمنة فى الولايات المتحدة. رجل ملون فى منصب مخصص عرفا للرجل الأبيض. الآن أصبح الكابوس واقعا ملموسا وتكراره جائز، والأهم هو أنه فتح الباب أمام فيض من الملونين الطموحين والراغبين فى الوصول إلى قمة الطبقة الحاكمة بعد أن زودت نفسها بالمال والعلم، وكلاهما كانا فى صدارة مسوغات الرجل الأبيض ليهيمن ويحكم.
لفت انتباهنا فى الآونة الأخيرة مقالات تنشرها صحف أمريكية ومحاضرات تلقى فى مؤتمرات واجتماعات معبأة بشعارات تدعو للعودة إلى «أمريكا: وطن الرجل الأبيض». يبدو أن أصحاب هذه المقالات والمحاضرات انتهزوا المزاج الجديد فى أمريكا ليصنعوا تيارا عاما يجذب إليه قطاعا من المحافظين وبخاصة من داخل الحزب الجمهورى. ويغرس انقساما داخل الحزب الديمقراطى.
هؤلاء ينتظمون تحت لواء حركة «حفلة الشاى» وهى الحركة التى بدأت متواضعة ومحدودة الأثر وانتهت قوة مؤثرة فى الحياة السياسية. بدأ هؤلاء يركزون على إحصائيات تثبت أن الأمريكيين من أصول إسبانية ــ لاتينية، وأغلبهم قادمون كمهاجرين شرعيين وغير شرعيين من أمريكا الجنوبية، صاروا يشكلون أقلية كبيرة فى المجتمع الأمريكى. كانوا حتى وقت قريب أغلبية فى أربع ولايات، والآن هم الأغلبية فى 10 أو12 ولاية. وتقرر معظم الدراسات المتخصصة أن الأمريكيين من أصول أنجلو سكسونية، أى الأمريكيون البيض، سيصبحون أقلية لا تزيد على 30% من سكان الولايات المتحدة بحلول عام 2040، أى خلال ثلاثين عاما فقط.
ذكرت أن عديدا من المؤشرات تشير إلى أن المتشددين الأمريكيين من أصول بيضاء متأثرون بالمزاج الأمريكى الراهن، بالإضافة إلى أن بعضهم مقتنع بأن مؤامرات دولية، دينية وعرقية وسياسية، تحاك ضد الولايات المتحدة. هذه المؤشرات وغيرها تضغط الآن بشدة على حكومة واشنطن وحكومات الولايات لاستصدار التشريعات اللازمة لمنع تفاقم الزيادة فى نسبة الملونين على حساب نسبة المنحدرين من أصول أوروبية، فكان أن أصدرت حكومة ولاية أريزونا قانونا يقضى بطرد المهاجرين غير الشرعيين ويشجع على التحرش بالمهاجرين كافة، وأصدرت حكومة واشنطن تشريعات تزيد أحكام الرقابة على حدود أمريكا مع المكسيك والسعى لعدم تسجيل مواليد الزوار والسياح والمهاجرين غير الشرعيين كمواطنين أمريكيين.
لا أرى نهاية قريبة لحملة المتشددين البيض ضد المهاجرين من أصول لاتينية بل أراها مرشحة للتوسع والتطرف والتمدد لتشمل المهاجرين من بلاد إسلامية ومن الشرق الأوسط باستثناء إسرائيل. صعب أن نقتنع بأن اللغة العنصرية المتطرفة التى صيغت بها الحملة ضد إقامة مركز ثقافى إسلامى فى نيويورك بعيدة عن التصعيد العنصرى ضد المهاجرين اللاتينيين من الجنوب. صعب أيضا أن نناقش الحملتين وأهدافهما بعيدا عن التصعيد الهائل فى أنشطة الجماعات الموالية لإسرائيل والاستعدادات فى أجهزة إعلام الحزب الجمهورى لتحطيم صورة أوباما قبل حلول موعد انتخابات النصف.
هناك من يغرس فى عقل الرجل الأبيض فى أمريكا أن المسلمين يزحفون من الشرق واللاتينيين يزحفون من الجنوب وأنه فى القرن الثانى والعشرين ستتوحد الأمريكتان فى كيان لاتينى واحد، بينما يكون للأوروبيين المنحدرين من أصول إسلامية حق المشاركة فى صنع ثقافة جديدة لأوروبا.
سعة خيال أم تخوف من مؤشرات على أرض الواقع أم محاولة لمنع تكرار ظاهرة أوباما.