عن أحوال عرب اليوم.. الذكورية والاستبداد وكراهية الآخر
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 19 أغسطس 2016 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
ليست وقائع الاستبداد هى المسئولة بمفردها عن تشويه إنسانيتنا فى بلاد العرب. وليست كارثة إخفاقنا الجماعى فى الانتصار لحقوق الإنسان والحريات وفى بناء المجتمعات الحديثة المستندة إلى المساواة والتسامح وفى التمكين لدول وطنية لا تختزل فى حكم الفرد أو فى حروب الطوائف وصراعات العصبيات وتلتزم مؤسساتها قيم العدل وسيادة القانون وتداول السلطة عبر الاختيار الشعبى الحر هى وحدها التى تلقى بنا إلى هاوية الجهل والتطرف والعنف والإرهاب. وليست ثلاثية اغتيال العقل والاحتفاء بالعبث وإماتة حريات الإبداع والفكر والرأى التى يمررها المستبدون وخدمتهم من مكارثيى تبرير المظالم والانتهاكات هى وحدها التى تباعد بيننا وبين مسارات التقدم والتنمية المستدامة.
لا، ليست الحقائق الكبرى للمجتمعات والدول الوطنية والحياة السياسية والمجال العام هى المتسببة بمفردها فى مأساة العرب المعاصرين.
ألسنا كأفراد بمتورطين فى تشويه إنسانيتنا حين نستسيغ فى مجالنا الخاص التمييز ضد الآخر الدينى والعرقى والاقتصادى ـ الاجتماعى، ونروج لروايات صريحة الطبيعة العنصرية تنزع عن الآخر كل قيمة أخلاقية وإنسانية ووطنية؟
ألا تتشوه إنسانيتنا فى سياقاتنا الأسرية بسبب استمرار التمييز ضد النساء وتعريضهن لجرائم العنف الجسدى والنفسى ثم بتبريرنا لها باستدعاء أنساق تقاليد بالية وادعاء زائف بالاستناد إلى التعاليم الدينية؟
ألسنا باستساغتنا التمييز ضد الآخر وباضطهاد النساء بمسئولين عن مظالم وانتهاكات صارخة للحقوق وللحريات سرعان ما تتسع دوائرها وتتنوع أنماطها وتتعدد هويات مرتكبيها فى المجال العام؟
ألا تستغل منظومات الحكم المستبدة والسلطوية، وإن جزئيا، اعتياد الناس على التمييز والاضطهاد فى المجال الخاص لكى تمرر قمعها واسع النطاق وقيودها وملاحقاتها وصنوف عقابها التى لا نهاية لها؟
أليست المسافة الفاصلة بين تجريدنا الآخر من كل قيمة أخلاقية وإنسانية ووطنية وبين توظيف المستبدين والحكام السلطويين لذات الأداة بهدف تخوين وتشويه معارضيهم واستباحة حقوقهم وحرياتهم وكرامتهم الإنسانية، هذا إن لم يكن المستباح هو دماؤهم وأجسادهم؟
فى جميع هذه الأطر، يحول التفكير العقلانى تماما كما يحول إعمال المتبقى لنا من ضمير أخلاقى دون إنكار تورطنا الفاضح فى جرائم البدايات التى تسيطر على مجالنا الخاص وتسلمنا إلى المجال العام مشوهى الإنسانية.
***
فى مجالنا الخاص تتقولب وقائع الاستبداد فى سلطة ذكورية تستند إلى الفكرة الحمائية التى تعهد إلى رب الأسرة بمهمة حماية أعضائها وتخضعهم فى المقابل إلى إرادته الانفرادية وتلغى إرادتهم الحرة وتعرضهم للرقابة والمساءلة والمحاسبة وتمنعهم دون مساءلة أو محاسبة حاميهم. وتتشابه وقائع الاستبداد الذكورى فى المجال الخاص مع وقائع استبداد الحاكم الفرد ومنظومات الحكم السلطوية فى المجال العام، بل إن الإحالة إلى الفكرة الحمائية تستنسخ من دور رب الأسرة ويدفع بها باتجاه سلطة العاهل / القائد / الزعيم / البطل المنقذ / المخلص المنوط به حماية «المصلحة الوطنية» و«الصالح العام» لإضفاء شرعية زائفة على صلاحياته المطلقة وعلى إلغائه لإرادة الأفراد الحرة وعلى استثنائه من قواعد الرقابة والمساءلة والمحاسبة.
يعنى قبول الاستبداد الذكورى فى الحياة الأسرية والاستسلام لمظالمه وانتهاكاته أو الصمت عليها مسئوليتنا المباشرة عن استنساخ نموذج استبدادى مشابه فى المجال العام وفى إطار المجتمع والدولة الوطنية. ويستحيل من ثم إلى استمرارية فاسدة صمت بعضنا على المظالم والانتهاكات واسعة النطاق التى يرتكبها المستبدون وعلى كوراث القمع والعصف بسيادة القانون وإهدار قيم الرقابة والمساءلة والمحاسبة التى تتورط بها مؤسسات الدولة التى يخضعها المستبدون لسلطانهم ويعرضون تماسكها ومصداقيتها بين الناس لأزمة وجودية حادة.
***
أما اغتيال العقل وطرائق التفكير العلمية والموضوعية وحريات الإبداع والفكر والرأى المستندة إليه، فيحدث فى المجال الخاص كما فى تفاعلاتنا كأفراد مع وسائط مجتمعية كالنظم التعليمية والهيئات الدينية ومؤسسات العمل والنشاط المهنى تهيئة كارثية للمجال العام وعموم الأطر المجتمعية ومؤسسات الدولة الوطنية للتورط فى الجنون. ننتقل من الاستبداد الذكورى فى الحياة الأسرية فنلتحق بوسائط مجتمعية تخاطبنا دون شرح بقوائم الصواب الخالص والخطأ الكامل وبثنائيات الحلال والحرام وبقواعد المسموح والممنوع، وتفرض علينا الحقائق المطلقة والرأى الواحد دون نقاش، وتمارس الاستعلاء برفض النقاش ورفض الحوار العلمى والموضوعى وبإنتاج وترويج الاتهامات بالجهل والفساد (النظم التعليمية) والكفر (الهيئات الدينية) والتورط فى التخريب (مؤسسات العمل فى القطاعين العام والخاص) باتجاه الأفراد المتمسكين بحقهم فى احترام العقل وبحقهم فى الحرية.
وعندها تصبح جد قصيرة تلك المسافة الفاصلة بين حقائق اغتيال العقل فى السياقات المباشرة لحياتنا وبين اغتيال للعقل واحتفاء بالعبث تمارسه منظومات حكم مستبدة وسلطوية تميت السياسة وتحاصر المجتمع المدنى وتهجر المواطن من المجال العام إن امتنع هو أيضا عن الاحتفاء بالعبث.
وعندها يصطنع الاستبداد آخره، يصطنعه من كل صوت يطالب بالحق والحرية، من كل مواطن يرفض الخضوع لإرادة من يحكمون ويملكون ولا يحاسبون، من كل فرد يقاوم الإدماج فى حشود هويتها الوحيدة هى الاصطفاف وراء المستبد وطاعته. يصطنع الاستبداد آخره، يصطنعه وفقا لتصنيفات دينية ومذهبية وعرقية وفكرية واهية ثم يعمل فيه التهديد والتعقب وانتهاك الحقوق وسلب الحريات والتعذيب والقتل والتهجير والإبادة الجماعية. يصطنع الاستبداد آخره، وحين تبتعد التصنيفات الواهية والجرائم الكارثية عنا ننزع إلى الصمت طمعا فى الخبز والأمن أو خوفا من التعقب والقمع ونترك الضحايا تارة لمآلاتهم وتارة لتضامن يأتى من وراء الحدود.