ذِلَّــــــــــة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 19 أغسطس 2022 - 10:45 م بتوقيت القاهرة

على مَدار الأشهر القليلةِ الماضية، تردَّد صوتٌ مَشروخٌ عشراتِ المرَّات بين شوارعِ حيّ هليوبوليس السكنيةِ؛ حاثًا السُّكانَ على جَمْعِ ما تبقَّى في أوانيهم مِن زيوتٍ مُستعمَلة، وبيعِها بالوَزن. المرةُ الأولى التي اقتحم فيها الصَّوتُ حجراتِ البيت؛ لم أفسّر عباراته بوضوح، ولما فسَّرتها سألت؛ فوصلتني رسائل متباينة منها أن هذه الزيوت يُعاد تدويرها كوقود، ومنها أيضًا أن بعض الناس قد تواضعت بهم الحال، وصاروا في ذِلَّة اضطرتهم لاستخدام بقايا غيرهِم في طهي شحيحِ الطعامِ الذي يملكون. لم يعُد في المستطاع شراءُ ما هو أجوَد، أو ما هو أرفق بأجسامِهم، وأرحم بصحةِ صغارِهم، وأدنى ضررًا.

• • •

تشير مُفردةُ الذِلَّة في قواميس اللغة العربية إلى حالٍ من المَهانةِ والخُنوع، هي أيضًا الكآبةُ وسواد الوَجه، وقد اشتُقَّت من الفعل ذلَّل الذي يوحي بالتقليل من القَيمةِ وخَسفِ المكانة. ذلَّل الرَّجُلُ عدوَّه أي أخضعَه وأهانه، والمَذلول أو الذَّليل هو الشخصُ الضعيفُ مُهدَر الكرامة، القابع في مَوضِع مُتدن ما قُورِن بالآخرين؛ لا يكاد يرفع عينيه في وجوهِهم ولا يجرؤ على مُعاملتِهم انطلاقًا مِن أسُس الندّيةِ والمُساواة، أما إذا قيل بيتٌ ذليل؛ فذو سَقفٍ مُنخَفِض، قريب إلى الأرض.

• • •

إذا أتى المرءُ بفعلٍ ليس من شِيمه، وتوقَّع الناسُ أن ثمَّة مَا يُحركه ويدفعه للإتيانِ بما لا يعقلون، بحثوا عن طرفٍ "ماسك عليه ذلَّه"، والمعنى أنه مُهدَّد وأن التهديدَ مؤثرٌ على مسلكِه واختياراته. التعبيرُ شائعٌ في حديثنا الدارِج، والذِلَّةُ أنواعٌ وألوانٌ وغالبًا ما تمثل لصاحبِها مصدرَ خجلٍ وأداةَ قسرٍ وإجبار.

• • •

في الذِلَّة كسرٌ للنَفس وإراقةٌ للروح، والحالُ أن يَملِكَ المُذِلُّ السيطرةَ على المَذلول فيجعله في حيرةٍ ومُعاناة؛ لا يتمكَّن من نزع قيدِه ولا يقوى على استردادِ إرادته. القيدُ المعنويّ مُخيفٌ، والتحرُّر منه صعبٌ عسير، والشعورُ بالذِلَّة يُورث أطنانًا من التعاسةِ، والخضوع لها يترك في المرءِ وسمًا أبديًا لا يزول. من الناسِ من لا يرضى بالذُّل وإن جاعَ ومَن لا يُحني الرأسَ وإن مزَّقته السياط.

• • •

إذا تخلَّى الواحدُ عن كبريائِه أمامَ حاجةٍ تعذَّر عليه قضاؤها، فتوسَّل وألحَّ وأفرطَ في السؤال؛ قيل قد تذلَّل. ربما لأن لذِلَّته من بيدِه الأمر فاستجابَ وجَبَرَ خاطرَه، وربما أعرضَ عنه وخذلَه فصارت المُصيبةُ مُضاعَفةً؛ فلا هو استبقى ماءَ وجهِه وحفظَه، ولا حقَّق غرضه.

• • •

يقولُ طالع العريفي؛ المَسجونُ السياسيُّ العتيد في رواية "الآن.. هنا" للراحلِ العظيم عبد الرحمن منيف؛ إنه جعلَ مِن صمُودِه وصمتِه إزاءَ الأسئلةِ التي يريد السَّجانُ إجابتها، وسيلةً وحيدةً للاحتفاظ بكرامته. كُلَّما تمسَّك بعدمِ الرد؛ كُلَّما استشاطَ الجلادون غضبًا، وكُلَّما سوَّموه العذابَ فازداد رفضًا وتشبُّثًا بموقِفه؛ كُلَّما جنَّ جنونُهم وتمادوا في إيذائِه؛ لكن ذواتِهم كانت تتكسَّر في نهايةِ الأمرِ أمام خَوفٍ مُبهَم قد اعتراهم، وزلزَلَ قناعاتِهم تجاه هذا الغارق في القيء والدماء؛ دون أن يعترفَ أو يتذلَّلَ أو ينهار.

•••

في بعضِ المَواقِف يكون الإذلالُ هدفًا قائمًا بذاته؛ أن يُوضعَ الشَّخصُ في مَرتبةٍ مُتدنيةٍ لا تُبيح له الشعورَ بآدميتِه، وأن يُحرمَ بالتالي مِن المُطالبةِ بحقوقِه الطبيعية. أحيانًا ما توحي بعض الحكومات للمواطنين بأن احتياجاتِهم الأساسيةَ تقع خارجَ نطاقِ مَسئوليتِها، وفي هذا الإطار تُعيد تشكيلَ الوعيِ العام بما يجعلُ من واجباتِها صَدقةً تستوْجِبُ الامتنانَ، ومِن التزاماتِها تفضُّلًا يستحقُّ الشُّكرَ والعِرفان، والحقُّ أن التمييزَ بين هذه وتلك؛ لا يتطلَّبُ كثيرَ الفِطنةِ ولا عميقَ الفَهمِ والإدراك.

• • •

في رائعةِ بديع خيري "قوم يا مصري" التي لحَّنها وأدَّاها خالد الذِكر سيد درويش: مصر جَنَّة طول ما فيها أنت يا نيل.. عمر ابنك لم يعيش أبدًا ذليل .

• • •

في مرأى بشرٍ مُتزايدين يتحايلون في الطُرقاتِ للحصول على ما يُقيم الأودَ؛ ذِلَّةٌ لا تعادلها ذِلَّة، وفي تواتُر الناسِ على مُخلَّفات تسدُّ الجوعَ وتجلبُ المَرَضَ؛ هوانٌ ليس مِن بعده هوان. قال أبو الطيب المتنبي: ذَلَّ مَن يَغبِطُ الذَليلَ بِعَيشٍ.. رُبَّ عَيشٍ أَخَفُّ مِنهُ الحِمامُ، كُلُّ حِلمٍ أَتى بِغَيرِ اِقتِدارٍ.. حُجَّةٌ لاجِئٌ إِلَيها اللِئامُ، مَن يَهُن يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيه.. ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved