أمة لا تمارس حسم الأمور
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الخميس 19 سبتمبر 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
يحار الإنسان فى أمته العربية حتى يصل إلى مراحل الشكوك المحبطة الغاضبة. لنأخذ أحد المواضيع المحيرّة، موضوع عدم القدرة وغياب الإرادة فى حسم الأمور الكبرى التى تواجهها الأمة. تمرُ السنون والقرون دون الوصول إلى حسم جمعى، نعم جمعى من قبل الغالبية السًّاحقة من الناس وليس من قبل هذه المجموعة المثقَّفة الصغيرة أو تلك المجموعة السياسية الهامشية.
دعنا نذكٍّر أنفسنا ببعض تلك الأمور التى واجهتها الأمة عبر الخمسة عشر قرناً الماضية، ولنبدأ بفاجعة موت نبى الإسلام صلى اللُه عليه وسلم.
ما إن يدفن الجسد الطاهر حتى ينفجر موضوع خلافة النبي. يبدأ كخلاف سياسى قابل للفهم لينتقل إلى خلافات مذهبية متطاحنة تشقُ الدين الوليد وتأخذه إلى متاهات تتشابك فيها السياسة وأطماع الدنيا بهلوسات غيبية وأمراض اجتماعية حتى النخاع.
هذا موضوع فى التاريخ، له أسبابه وموجباته وسوء التصرف بحقه فى حينه. لكن تمرُ القرون والموضوع باق معنا، بنفس وحدة المشاعر الغاضبة، بنفس الشَتائم الوقحة، دون إدخاله بشكل حاسم كموضوع من التاريخ، دون إخراج لخلاف تاريخى من الاختلافات الفقهية الاجتهادية، لكأن الأمة تريد أن تبقى الموضوع فى وعيها الجمعى كلعنة أبدية.
لنذكُّر أنفسنا بموضوع ثانٍ. إنه موضوع الملك العضوض الذى دشنه الخليفة معاوية، لقد انقلب ذلك الحدث السياسى إلى قراءة فقهية بعدم جواز الخروج على ولى الأمر ، بل طاعته حتى ولو كان ظالما فى أمور الدنيا ومصالح العباد، وذلك اتقاء للفتنة.
حسناً، حتى لو وجدنا فى ذلك الحين مبررات لذلك الخوف على الدين الوليد وأمَّته، هل يعقل أن يبقى ذلك الخوف فى وعى الأمة الجمعى حتى يومنا هذا؟ لكنه باق معنا بالرغم من أن ذلك الفهم يتناقض كلياً مع متطلبات قيام الأنظمة الديمقراطية التى اصبحت جزءاً مهماً وعميقاً من الوعى الجماعى الإنسانى.
لكأن الأمة تريد بقاء لعنة الاستبداد والحكم الظالم كجزء اصيل من حياتها السياسية إلى الأبد. لو سألت أيُ فرد فى بلدان مثل فرنسا أو انجلترا أو مريكا عن نظام الحكم الذى لا يمكن أن يقبل بسواه، فإن الجواب القاطع هو أنه لن يقبل قط بنظام غير ديمقراطى. تلك الأمم حسمت أمرها مع موضوع نظام الحكم فى وعيها الجمعى.
أما عندنا فإن الأمر لم يحسم بالرغم من أهوال ومخازٍ ومظالم واستباحات فكر ونظام الملك العضوض.
●●●
دعنا ننتقل إلى العصر الحديث. الموضوع فى هذه المرة هو الوحدة العربية، وحدة الأمة بمفهومها الحديث ومن ثم وحدة تراب الوطن بالشكل المناسب. يستيقظ ذلك التوق بعد سقوط الخلافة العثمانية، يتجسُّد فكراً وتنظيماً فى كتابات وأحزاب وحركات إلى أن يصل إلى قمته فى زخم الناصرية الهائل. لقد دخلت آنذاك مشاعر العروبة وآمال الوحدة العربية فى نفوس وعقول الملايين وأصبحت جزءاً من عمق الوعى الجمعى العربى.
لكن ترتكب الأخطاء ويموت القائد وتتكالب قوى الخارج والداخل وإذا بذلك الزخم يتراجع وترتفع رايات الخصوصية القطرية لتشوية وغواية الوعى القومى الجمعى.
تمَّر أربعة عقود لتنكشف هشاشة التوجٌّه القطرى وتصبح جميع الأقطار نهباً للغريب المستعمر والصهيونى وتتعثر التنمية إلى حدود الفواجع. ومع ذلك يظل الموضوع غير محسوم إلى هذه اللحظة فى الوعى الجمعى. وحتى حراكات الربيع العربى الثورية الرافعة للشعارات الكبرى لم تحاول أن تحسم الموضوع فى أذهان الملايين من مناصريها وداعميها. لكأن الأمة استمرأت العيش مع اللعنات لتضيف لعنة التجزأة والتُّفتيت للمجتمعات والأوطان.
القصُّة تطول. هل نذكر بمرور قرنين دون حسم للأصالة والحداثة، لإمكانية تعايش المشاعر الوطنية مع القومية مع الإسلامية دون حروب وصراعات، لإمكانية تعايش مشاعر الانتماء السوسيولوجى للقبيلة والدين والمذهب مع الانصهار فى المواطنة الجامعة، لموضوع تساوى حقوق المرأة الكاملة بتميُزها الطبيعى والنفسى أمام حقوق الرجل الكاملة بتميُزه الطبيعى والنفسى؟
●●●
أمام هذا التاريخ من عدم الحسم يطرح السؤال المرعب الآتى نفسه: ترى هل سنضيف إلى تلك القائمة الطويلة من عدم الحسم موضوع الجهاد التكفيرى الطائفى العبثى، الذى يقسم الأمة بين مؤيد مصفٍق وإلى رافض مشمئز، والذى شيئاً فشيئاً ينقلب إلى مذهب له منظروه ومحلّلوه وإلى فرق لها داعموها ومحتضنوها؟ ترى هل سيصبح هذا الموضوع لعنة جديدة فى حياة الأمة لعدة قرون أخرى؟ القائمة تطول إلى حد الغثيان.
موضوع عدم القدرة على الحسم هو مرض نفسى معروف يصيب الأفراد، وله علاج. فإلى متى سيظلُ المفكرون والكتاب والقادة والسياسيون العرب يتلهون بفلسفات وتقليعات وهرطقات الآخرين دون التركيز والتفرُغ شبه التام لمساعدة الأمة لحسم الخروج من مصائبها؟
مفكر عربى من البحرين