نظرة ثانية على اتفاقيتى الإمارات والبحرين مع إسرائيل
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 19 سبتمبر 2020 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
تناولت هذه المساحة من «الشروق» بالتحليل منذ أربعة أسابيع مضت الإعلان عن اتفاقية تطبيع العلاقات بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل. هذه هى المرة الأولى التى يشمل التحليل فيها اتفاقية البحرين مع إسرائيل ومع ذلك فهو نظرة ثانية على كلتا الاتفاقيتين لأنه يتناول ما يجمعهما.
الدارس لابد أن يشك دائما ليس فى كل ما يعرض عليه فقط وإنما فى نفس تقديراته. صحىٌ أن يعيد المعلق النظر فى تحليلاته ومواقفه، لعل أبعادا غابت عنه فى المرة أو المرات الأولى. وربما كان فى المرء نزعة طبيعية للجمود ورفض غير واعٍ للتغيير. لقد رحب العديدون فى بلادنا بالاتفاقيتين ورأوا فيهما فاتحة للسلام والازدهار فى الشرق الأوسط بل ووعدا بحل «للنزاع الفلسطينى ــ الإسرائيلى» وبتسوية عادلة للقضية الفلسطينية تحقق طموحات الشعب الفلسطينى وتنشئ له دولته المستقلة بعاصمتها فى القدس الشرقية. نفس هذه المعانى شدد عليها الموقعون العرب عن الإمارات والبحرين على الاتفاقيتين يوم الثلاثاء الماضى 15 سبتمبر. والحال هذه، لابد من التفكر فعلا، لعل الاتفاقيتين تحققان ما عجزت المقاومة العربية لآثار نشأة إسرائيل على الشعب الفلسطينى ولسياستها التوسعية، لعلهما تحققان ما عجزت هذه المقاومة عن إنجازه.
الموقعون والمتفائلون بالاتفاقيتين الإماراتية والبحرينية لم يبينوا كيف ستتحول أحكام الاتفاقيتين أو حتى آثارهما إلى عوامل لحل النزاع وإلى لبنات لبناء الدولة الفلسطينية. هم اكتفوا بما قالوه ولم يبذلوا أى جهد ولم ينبسوا بكلمة واحدة لبيان آليات هذا التحول أو لإقناع المتشككين فيما يعدون هم به. لذلك، ولكى نقطع الشك الذى يداخل المحلل، سوف ننوب عنهم ونبذل جهدا لتخيل تصورين لكيفية حدوث هذا التحول ونعلق على كل منهما على التوالى.
***
التصور الأول هو أن أجواء التعاون الإقليمى العربى الإسرائيلى ستنشأ فى إسرائيل وكذلك فى الإمارات وفى البحرين، على أمل أن تتوسع هذه الأجواء وتشمل رويدا رويدا بلدانا عربية أخرى. فى أطر التعاون بين الدول، سواء كان عالميا أو إقليميا، ترتفع معدلات النمو الاقتصادى وتتحسن مستويات المعيشة نتيجة لنمو وتكثف التبادلات التجارية والاستثمارية وتزدهر الدول الأطراف بحيث لا يصبح ثمة مجال للنزاعات بين أطرافها وربما نشأت فى النهاية ما يسمى بالجماعات الأمنية أى جماعات من الدول يستبعد تماما أن تنشأ نزاعات فيما بينها. يقال مثلا عن الدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا أنها تشكل جماعة أمنية فى شمال الأطلسى إذ لا يمكن تصور أن ينشأ نزاع فيما بينهم. فى هذا التصور، فى انتفاء النزاع يكمن السلام فى الشرق الأوسط. ليس سبيلٌ لأن يعرف أحدٌ إن كان هذا حبل التفكير الذى حدا بالرئيس الأمريكى لاعتبار أن الاتفاقيتين تمهدان للسلام فى المنطقة، ولكنه كان صريحا إذ ذكر فى الأسبوع الماضى أن الدول العربية وبعد الإمارات والبحرين ستوقع تباعا على اتفاقيات مع إسرائيل بحيث لا يجد ممثلو الشعب الفلسطينى فى النهاية سبيلا إلا التوقيع بدورهم على اتفاقية «للسلام» مع إسرائيل. بهذا الشكل تكون قد أصابت مقاربة كل من الرئيس الأمريكى وفريقه ورئيس الوزراء الإسرائيلى بأن يسبق السلامُ والازدهارُ تسويةَ القضية الفلسطينية وليس كما أراد العرب الذين علقوا السلامَ على تسويةِ القضية الفلسطينية.
لا يستطيع المتفائلون بالاتفاقيتين إنكار أن التصور الأول سخىٌ تماما، وهو إن صح يوفر مبررا لتفاؤلهم. ولكنه تصور خاطئ! الخطأ فيه أنه يتجاهل الافتراضات التى ينشأ على أساسها التعاون الإقليمى وتزدهر الدول وتنبنى الجماعات الأمنية. التعاون يؤدى إلى النمو والازدهار فى أى إقليم فى العالم بعد أن تنشأ العلاقات السلمية بين أطرافه وليس قبلها. ليس معروفا أن تعاونا تشكل فى أى منطقة فى العالم قبل أن تنشأ العلاقات السلمية بين الدول الأطراف فيه. فى منطقة شمال الأطلسى تبلورت الجماعة الأمنية بعد انتهاء احتلال القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية لألمانيا الغربية وتحول هذه الأخيرة إلى دولة مستقلة وانضمامها إلى حلف شمال الأطلسى، فضلا عن الأمم المتحدة، فى سنة 1955. بالنسبة لبلدان أوروبا الغربية كان انضمام ألمانيا الغربية إلى حلف شمال الأطلسى هو الضمان للعلاقات السلمية معها. انسحاب قوات الاحتلال وانضمام ألمانيا الغربية إلى حلف شمال الأطلسى كانا بمثابة اتفاقية الصلح أو السلام فيما بين ألمانيا الغربية من جانب والأطراف الغربية فى الحرب العالمية الثانية من جانب آخر. قبل ذلك بعام واحد، فى سنة 1954، رفضت الجمعية الوطنية الفرنسية التصديق على اتفاقية تنشئ جماعة أوروبية للدفاع. لم تكن فرنسا لتطمئن إلى ألمانيا الغربية بعد. لذلك لم ينشأ مفهوم الجماعة الأمنية، وبشأن شمال الأطلسى تحديدا، إلا فى النصف الثانى من الخمسينيات من القرن الماضى. فإذا انتقلتَ من شمال الأطلسى إلى جنوب شرقى آسيا لوجدتَ أن مفهوم الجماعة الأمنية لم يثر بشأن الدول الأعضاء فى منظمة دول جنوب شرقى آسيا إلا بعد انتهاء حرب فيتنام وامتداداتها فى كمبوديا ولاوس ثم وخصوصا بعد انقضاء المواجهة الأيديولوجية والسياسية فى المنطقة. فهل الحالة فى منطقة الشرق الأوسط شبيهة من قريب أو بعيد بالوضع اعتبارا من النصف الثانى من خمسينيات القرن الماضى فى شمال الأطلسى أو به فى جنوب شرقى آسيا بدءا من النصف الثانى من التسعينيات فيه؟ إسرائيل ما زالت تحتل أراضى سورية وهى ضمت الجولان إليها، والقوات الإسرائيلية موجودة فى الضفة الغربية التى غزتها المستوطنات، وهى تحاصر قطاع غزة وتضربه كلما حلا لها ذلك، وفى لبنان تحتل إسرائيل مزارع شبعا وهى اعتادت انتهاك مجاله الجوى على الأقل. الفرضية الأساسية التى يستند إليها التعاون الإقليمى، وهى ضرورة أن تسبقه العلاقات السلمية، ليست موجودة.
فإذا ما تغاضيتَ عن فرضيات التعاون الإقليمى ونظرتَ فى مفهوم السلام نفسه، فإنك ستجد أنه مفهوم مغلوط. السلام ليس انتفاء النزاعات المسلحة فقط. إن انتفت العدالة وغابت شروط الحكم المستقل وانعدمت إمكانيات النمو والتقدم وآثارهما على الناس فإنك لا تكون بصدد أى سلام. توقيع ممثلى الشعب الفلسطينى على اتفاق مع إسرائيل كما يتصوره الرئيس الأمريكى هو توقيع من لا حيلة له غير ذلك، أى هو توقيع إذعان، لأنهم مضطرون إليه بعد أن يكون كل العرب قد تركوهم وحدهم. هل يفضى أى إذعان إلى سلام حقيقى؟ أم هو يكون بمثابة هدنة قصيرة تستأنف بعدها النزاعات؟ أو هل هو خفوتٌ لشكل من أشكال النزاع يتحور بعده كما الفيروسات لكى يندلع فى شكل مختلف، قوميا كان أو عنصريا أو اجتماعيا.
***
ربما كان الخيال قد شطح ولكن ما الحيلة وقد بخل علينا أصحاب الاتفاقيتين ببيان أى آليات لتحول مشروعهم إلى خير يعمُ المنطقة والشعب الفلسطينى؟ البديل لخيال شاطح هو تصور أكثر تواضعا وهو أن الاتفاقيتين وتلك التى يقال إنها ستتلوهما ترمى إلى طمأنة إسرائيل على قبولها فى المنطقة فلا يصبح «للحاجز النفسى» الذى تتحصن وراءه أى مبرر فتُقدِم بذلك على التسليم بحقوق الشعب الفلسطينى بما فى ذلك الحق فى دولته المستقلة. هذا التصور ليس جديدا فهو يرجع إلى أربعين سنة ماضية ثبت فيها انعدام أى أساس له. أولا، إسرائيل ليست فى حاجة إلى طمأنة من أحد، فقوتها العسكرية كفيلة بتحقيق الاطمئنان لها، وهى متمسكة بأن تستمر فى التفوق تسليحا على كل الدول العربية مجتمعة وهو، وبالمناسبة، ما يتنافى مع منطق التعاون كمقدمة للسلام. وثانيا، فى هذه السنوات الأربعين دمرت إسرائيل المفاعل النووى العراقى، واعتدت مرارا على لبنان حتى اقتحمت بيروت، ودأبت على الاعتداء على سوريا، وذهبت غربا فانتهكت سلامة الأراضى التونسية واغتالت زعماء فلسطينيين فيها، علاوة على استمرار احتلالها لأراض عربية وضمها لمرتفعات الجولان وتوسعها الاستيطانى فى الضفة الغربية كما أشير إليه أعلاه. تصور إسقاط «الحاجز النفسى» ثبت خواؤه وخطؤه مرة بعد أخرى فى الأربعين سنة الماضية. ثم كيف تحقق الاتفاقيتان أهداف الشعب الفلسطينى فى الوقت الذى لا ترد فيه، وبخلاف عبارات مبهمة فى الديباجتين، كلمة واحدة فى منطوق أى منهما عن القضية الفلسطينية أو «النزاع الفلسطينى الإسرائيلى»؟ تجربة أوسلو تثبت أن أى نصوص غير مضبوطة يفسرها القوى فى مصلحته ويفرض هذا التفسير بقوته، فما بالك إن لم توجد أساسا أى نصوص! أما ما يرد فى الكلمات والخطب من أمانى، فهو مما لا يعتد به. والتجربة أيضا تثبت ذلك.
***
رغم كل الشك الذى داخل المحلل فإن النظرة الثانية على الاتفاقيتين لا تخلص إلى أنهما يمكن أن يكونا بديلا ناجحا لمنهج مقاومة السياسة الإسرائيلية وهو منهج كان الأصل فيه حماية الشعب الفلسطينى وتفعيل حقوقه من أجل إيجاد بيئة إقليمية تسمح للشعوب العربية وشعوب الشرق الأوسط بالالتفات إلى مشكلاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. لا يمكن لعاقل أن يحاجى فى فشل المنهج العربى. ليست هذه المناسبة فى بحث أسباب هذا الفشل ولكن البديل له على أى حال ليس فى التسليم بمنهج آخر يترك أصل المشكلة الإقليمية بلا حل ويؤدى إلى توزيع للقوى أكثر اختلالا، حيث ستزداد إسرائيل قوة على قوة نتيجة وكمثال واحد لوصولها وبلا مقابل سياسى إلى الأسواق العربية من بوابات الإمارات والبحرين ومنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى. توزيع القوى الأكثر اختلالا هذا لا يمكن أن ينشأ عنه أى سلام مستدام.
نعم، العلاقات السلمية ضرورية مع إسرائيل وهى لابد أن تفضى إلى اتفاقيات ولكن على هذه العلاقات أن تحل المشكلات أولا وليس أن تلتف حولها وتتجاهلها.
وإلا فلتكن الإعلانات صريحة واضحة: هذه اتفاقيات تبغى تحقيق ما يراه أطرافها مصلحة لهم.
ولا داعى للزج بحقوق الشعب الفلسطينى وبالمستقبل المزدهر الموعود للمنطقة فى الحديث عنها.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة