الإعلام بالتونسى

نجلاء العمري
نجلاء العمري

آخر تحديث: الأربعاء 19 أكتوبر 2011 - 9:15 ص بتوقيت القاهرة

فى عز الحديث عن الإعلام المصرى والتليفزيون المصرى، وصلتنى مكالمة من أحد الزملاء من الهيئة العليا لإصلاح الإعلام فى تونس بأن الحكومة المؤقتة قد أقرت مرسوم إنشاء المجلس الأعلى للإعلام المسموع المرئى و«مدونة» الصحافة.

 

المرسوم صدر يوم الخميس الماضى، فى اليوم ذاته الذى كانت فيه قنوات التليفزيون المختلفة فى مصر منشغلة إما بالدفاع عن التليفزيون المصرى، وإما بالتبرير له. كانت الصورة «هنا» قاتمة ومبهمة، عكس الصورة هناك فى تونس. هنا، مذيعون وإعلاميون يتحدثون عن «توهان» و«حيرة»، و«تحريض» و«لاتحريض» و«غياب مهنية»، واتهامات من مذيعين لمعدى برامج ومسئوليها واتهامات من مسئولين لمذيعين. والقائمة تطول وتتكرر فى نغمة معتادة. وهناك، شعور بأن مشوار الأشهر التسعة للثورة قد أنجز وبانت بشائر ثماره حتى وإن كان الواقع لا يزال يحمل مشكلات كثيرة وخطيرة كحرق مجموعة من المتشددين لمنزل وسيارات صاحب قناة «نسمة» التليفزيونية الخاصة لعرضها الفيلم الكارتونى الإيرانى الشهير «بيرسيبوليس».

 

فماذا فعل التونسيون وغاب عن المصريين:

 

منذ البداية انفصل العمل الإعلامى المهنى عن العمل السياسى. تمثل ذلك فى إنشاء هيئة استشارية هى الهيئة العليا لإصلاح الإعلام، وعهدت رئاستها لواحد من أكثر الصحفيين التونسيين ــ والعرب ــ إعلاء لحرية الإعلام والكلمة. وهو الصحفى كمال العبيدى الذى عاد إلى تونس بعد زوال حكم بن على بعد أن خرج منها مفصولا من عمله ومطاردا. وعمل فى الخارج فى هيئات مختلفة مراقبا دءوبا للحريات الصحفية فى العالم العربى. وكان بتاريخه الشخصى «غير قابل» للاتهام بالديكتاتورية والتضييق على الحريات.

 

وامتدت صفة المهنية لأعضاء الهيئة التسعة جميعا. فجاءوا من الإعلاميين والحقوقيين المشهود لهم بالنزاهة كالحقوقى محمد عبود، الذى سجن ثلاث سنوات بسبب مقال له. وابتعدوا جميعا عن العمل السياسى العام. بل كانت إجابة كمال العبيدى واضحة عندما عرفه أحد المذيعين بـ«الناشط السياسى» فرد قائلا: «أنا لست سياسيا ولكننى ناشط حقوقى»، وهذا ليس إقلالا من شأن السياسيين لكنه الضمانة لعدم تسييس الهيئة، وبالتالى عدم تسييس ما يصدر عنها من قرارت ومشاريع قوانين.

 

والصفة الثانية الهامة للغاية والمثيرة للإعجاب هى «صفة التطوع» ــ فجميع الأعضاء عملوا طوال هذه الشهور دون تقاضى أى أجر وبدون أى منصب أو مسمى وظيفى بل تطوعا (باستثناء وحيد هو الرئيس). والتطوع ضمن لها الجدية والإيمان بما تقوم به وساعدها على مواجهة الخصوم ــ وهم كثر ــ ومواجهة حتى الجهاز الذى تتبعه إداريا وأعنى به الوزراة الأولى (رئاسة الوزراء).

 

وسيلة عمل الهيئة هو الآخر جاء مختلفا من زاويتين:

 

أولا: لم تعمل الهيئة فى معزل عن القوى المجتمعية والمهنية المختلفة. فأجرت حوارت منتظمة ومتواترة مع النقابات وجمعيات الصحفيين والأحزاب السياسية وذوى الخبرات ــ فى حوار «وطنى» فاعل ومستمر وجاد ــ وليس فقط للاستعراض الإعلامى، واستمرالحوار رغم كل الصعوبات والحملات وحقق لها أداة فعّالة لمقاومة الضغوط ــ بما فى ذلك ضغوط الحكومة و«فلول» بن على ــ وتمثلت فى تكوين رأى عام توافق على الهيئة والهدف منها حتى وإن انتقدها فى جزئيات.

 

وعندما تباطأت الحكومة فى إقرار المشاريع التى اقترحتها الهيئة، شاهدت بنفسى كيف أعدت الهيئة خطابا للحكومة منحتها مهلة لإقرار القوانين، وهددت باستقالة جماعية واللجوء الى الرأى العام المحلى والخارجى فى حملة تدين تلكؤ الحكومة. فكان لها ما أرادت.

 

وثانيا: كما شهد الحوار حول إصلاح الإعلام انفتاحا على القوى الوطنية المختلفة دون تمييز، شهد كذلك انفتاحا على التجارب العالمية لم يقتصر على المصنفة منها بالديمقراطية (كالتجربتين البريطانية والفرنسية) بل جاوزها الى نماذج أخرى أثبتت فشلها خاصة فى أوروبا الشرقية فيما بعد انهيار الاتحاد السوفييتى (والفشل بالمناسبة هو السمة السائدة وليس العكس، وهو أمر مهم يجب الالتفات إليه).

 

الحوار والاستعانة بالخبرات «الخارجية» تم دون عقد «الريادة» و»التفوق» بل من منطلق التواصل المعرفى والمهنى. وكان التونسيون يقولون بوضوح ما يطلبون المساعدة فيه ولا يترددون فى الاعتراف بالنواقص. ولصياغة قانون الهيئة العليا للإعلام المسموع المرئى الذى أشرنا إليه فى البداية، درست الهيئة أكثر من أربعين قانونا مماثلا فى دول مختلفة حتى خرجت بطرح تونسى بامتياز لكنه غير منفصل عن التجارب العالمية.

 

إنجازات المرحلة الانتقالية:

 

من البداية فرضت الهيئة كراسة شروط على كل طلبات ترخيص الإذاعات ومحطات التليفزيون فى مرحلة ما بعد الثورة. واستقبلت أصحاب الطلبات فى جلسات استماع وإصرار على تطبيق المعايير على الجميع دون استثناء على الرغم من الحملات التى تعرضت لها ووصفتها بإعاقة حرية الإعلام. ومنحت التصاريح للمشروعات التى انطبقت عليها الشروط دون غيرها. وقاومت فى ذلك الحملات التى تعرضت لها من فلول «بن على» تماما كما من القوى التى أفرزتها الثورة. ورفضت تمييز الأولى تحت ضغط «الفلول» وقوة رأس المال أو الثانية تحت ضغط «الشرعية الثورية». ونجت تونس بذلك ــ حتى الآن على الأقل ــ من طوفان محطات التليفزيون الذى أغرق مصر.

 

أما الإنجاز الثانى، فهو مراقبة أداء القنوات الإعلامية بما فى ذلك التليفزيون الحكومى ــ ولم تتردد فى إنذار محطة خاصة سمحت للشيخ عبدالفتاح مورو ــ القيادى الإسلامى الشهير والمرشح لعضوية المجلس التأسيسى ــ بتقديم برنامج «دينى» فى رمضان. وتصدت الهيئة للبرنامج لأن من يقدمه وإن كان رجل دين إلا أنه يعمل بالسياسة وبالتالى هو باب خلفى لخلط الدينى بالعمل السياسى. لكن أهم إنجازات المرحلة الانتقالية هو بلا شك ــ مرسوم يوم الخميس الماضى وهو الذى يؤسس لهيئة عليا تنظم الإعلام السمعى البصرى، هيئة دائمة هذه المرة تتولى مهمة المراقبة والمحاسبة على غرار «الاوفكم» البريطانية أو «المجلس الأعلى» الفرنسى.

 

وتكون تونس بذلك قد خطت خطوة واضحة على طريق تأسيس بيئة إعلامية ديمقراطية لا تساوى بين «أمن الوطن» و«تكميم الافواه» ولا بين «حرية الكلمة» و«الفوضى». وكما قلت فى البداية ــ هذا هو حال الإعلام «بالتونسى» وليس «بالمصرى».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved