يسقط أرسطو ويعيش عبدالمنعم مدبولى!
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 19 أكتوبر 2018 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
قضيت شقا معتبرا من الأيام الماضية مستمعا إلى محاضرات ومداخلات أكاديمية عن أمور يستحيل إنكار ترفها وابتعادها البين عن حياة البشر الطبيعيين شمالا وجنوبا مهما اختلفت حظوظ مجتمعاتهم رغدا هناك وشقاء هنا.
جاءت البداية مع محاضرة لفيلسوف قرر أن يخصص السنوات القادمة من عمره لترجمة كتاب لأرسطو يتناول مفهوم «الحياة الجيدة» من اللغة اليونانية إلى اللغة الألمانية. عنوان كتاب الفيلسوف اليونانى الشهير هو «إيدامونيا»، والفيلسوف الألمانى القائم على الترجمة تحدث لما يقرب من ساعتين عن صعوبة العثور على كلمة ألمانية تقابل كلمة «ايدامونيا» لكونها تحمل العديد من المعانى مثل السعادة والرفاهة والفضيلة والمعرفة وجودة الحياة. وإذا كانت صعوبات ترجمة الكتاب تبدأ من عنوانه، فهى لا تنتهى معه نظرا لتضارب الأفكار التى يصوغها أرسطو على صفحاته حيث تصير «إيدامونيا» تارة مرادفا للإقدام الذى يجسده القادة العسكريون وتارة أخرى صنوا لفضائل التواضع وحب المعرفة التى يعبر عنها الفلاسفة، وقد تصبح الروح المكان الذى تنبع منه السعادة والرفاهة، أو يكتسب الناس سعادتهم ورفاهتهم من أفعالهم وأعمالهم.
وعندما سألت عالمة بيولوجيا أمريكية الفيلسوف عن «أهمية» ترجمة كتاب لأرسطو عن «الحياة الجيدة» والرجل لم يعترف أصلا بالحق فى الحياة إلا «للمواطنين الذكور» واستبعد المرأة والذكور المصنفين كعبيد (لفقرهم فى الأغلب الأعم)، تلعثم وقال لها إن الكتابات الفلسفية ينبغى أن تفهم فى «سياقاتها التاريخية» لا فى سياقنا نحن. وحين أتبعت أستاذة تاريخ ألمانية سؤال «الأهمية» بسؤال عن «القيمة العلمية» لترجمة كتاب يحوى المتداخل من المفاهيم والمتضارب من الأفكار وعما إذا كان كتاب مشابه لمؤلف مجهول لا يملك شهرة «الفيلسوف أرسطو» سيحصل على معاملة مماثلة، وتندرت على أن بعض الأكاديميين المعاصرين يصنعون أبطالا من فلاسفة ومؤرخين قدامى تتسم كتاباتهم بالرجعية الشديدة ولا تربطها بحياتنا الراهنة سوى استمرار تدريسها فى جامعات غربية لدواعى الوجاهة العلمية الزائفة، تلعثم الفيلسوف مجددا وقال ما معناه إن أفكار أرسطو تستحق الدراسة بعيدا عن صيته الذائع وأنها تساعد المتخصصين فى الفلسفة على إدراك «البدايات الإنسانية للتفكير المنطقى»!
***
عند هذه العبارة، ثارت ثائرة سيدات أخريات كلهن من أساتذة التاريخ والأدب والفن فى الجامعات الغربية وأجهزن على إدعاء أن بداية التفكير المنطقى ارتبطت بالحضارة اليونانية القديمة بمجموعة من الإشارات المحددة إلى شيوع المنطق فى الحضارة المصرية القديمة وحضارات الشرق السابقة تاريخيا على اليونان وإلى غياب المنطق عن بعض جوانب الإنتاج الفلسفى لليونان القديمة التى لم تر فى المرأة غير طرف تابع «للمواطن الذكر» وفرضت العبودية على الذكور من غير المواطنين. وأنهت أستاذة أدب نرويجية (بهدوء بالغ ورقى جم) وصلة التفنيد النسائى لكتاب أرسطو عن الحياة الجيدة ولدفاع الفيلسوف الألمانى عن أهمية ترجمته فى القرن الحادى والعشرين بالتأكيد على أن «إيدامونيا» ترجم بدقة عالية إلى اللغة الإنجليزية وبالدفع بكون تلك الترجمة بها ما يكفى للبحث الفلسفى المعاصر. هنا لم يستطع الفيلسوف المحاضر التنصل من صحة رأى الأستاذة النرويجية، وتدخل من كان يدير النقاش لإنهائه بكلمات معتادة عن رحابة العلم وتنوع مقاربات العلماء والأكاديميين.
مثلت «الثورة النسائية» على رجعية أفكار أرسطو وادعاءات الفيلسوف المعاصر فرصة ذهبية لى للتثبت من نزوع المرأة عالمة وأستاذة جامعية إلى تفنيد ورفض التحايل الذكورى لرجال يريدون مواصلة تدريس كتابات متهافتة فى الفلسفة والتاريخ لا صلة لها بعالم اليوم ولا بحياة البشر الطبيعيين وهمومهم وآمالهم، فقط لأن الدوائر الأكاديمية الغربية صنعت من مؤلفيها أبطالا واعتبرتهم رموز البداية للحضارة الغربية بتراثها اليونانى الذى ألغى كل ما قبله ورفع هو زيفا إلى مقام العقل والمنطق الخالصين.
***
ومن محاضرة «إيدامونيا» ويقينى أن الجامعات فى الغرب وخارجه ستستفيد من الإنصات إلى النساء اللاتى يعرفن كيف يفندن التحايل ويدفعن باتجاه تجاوزه، إلى ورشة عمل أكاديمية عن «مفهوم الكذب ووظيفته فى أطر ثقافية مختلفة» تابعت جانبا كبيرا من المداخلات التى ألقيت بها والنقاشات التى أثارتها. عهد إلى متخصصين فى علم النفس والعلاج النفسى والدراسات الثقافية بتشريح معانى «الكذب» والتمييز فيما خصها بين إنكار الحقيقة والتحايل عليها وتزييفها الكامل، وربط بعضهم بين تلك المعانى وبين الأسباب التى تدفع الناس إلى التورط فيها.
أمضيت ساعات طويلة متابعا للمداخلات والنقاشات وساعيا إلى رصد المقصود «بالأطر الثقافية المختلفة» وتأثيراتها على معانى ووظائف الكذب، لعلى أدرك الفارق مثلا بين «كذب» الغربيين والآسيويين أو بين «كذب» العرب سكان شمال إفريقيا وما تفعله شعوب إفريقيا جنوب الصحراء. لم أجد ما يقنع أبدا، فلا الفرد الغربى يميل وحده إلى إنكار الحقيقة حين لا يستطيع التعامل مع نتائجها (من منا لا يفعل ذلك؟)، ولا تغيب عن الغربيين دوافع تزييف الحقيقة لأسباب التفاخر الشخصى والوجاهة الاجتماعية ورفض الاعتراف بالأخطاء (ألا يتورط دونالد ترامب فى مثل هذه الممارسات كل صباح ومساء؟). والشرقيون، من آسيويين وعرب وغيرهم، لا يتحايلون على الحقيقة فقط عندما يتعلق الأمر إن بالمقبول والمرفوض اجتماعيا أو بالحلال والحرام بالمعنى الدينى. بل يفعلون ذلك أيضا للتخلص من صعوبة الاعتراف بالأخطاء وحفاظا على مكانة الفرد المعنى داخل الأسرة وفى الفضاء العام.
***
كانت تلك هى الملاحظات السريعة التى تبلورت فى ذهنى وأنا أستمع إلى مداخلات السادة علماء النفس والمعالجين النفسيين والمتخصصين فى الدراسات الثقافية. وعلى هوامشها كنت أضحك من أعماقى تارة عندما تطفو على سطح ذاكرتى مشاهد المبدع العظيم الفنان عبدالمنعم مدبولى وهو يؤدى دور المعالج النفسى فى فيلم «مطار الحب» وينصح مريضا يعانى من عقد كثيرة بسبب قصر قامته بترديد أنه طويل القامة أثناء سيره فى الشوارع كحل سحرى («تقول أنا مش قصير قذعة أنا طويل وأهبل» مع مد طويل وتفخيم أهبل)، وأقارن بين خفة ظل النصيحة المدبولية وسخف حديث السادة العلماء المشاركين فى ورشة أكاديمية لا تستحق أن ينفق عليها سنت واحد (أو مليم واحد لمراعاة اختلاف الأطر الثقافية). وتارة ثانية، كان الإحباط يتملكنى حين أسترجع تفاصيل إنكار الحقيقة والتحايل عليها وتزييفها التى تتورط بها اليوم حكومات شرقية وغربية فيما خص مسألة إخفاء الصحفى جمال خاشقجى لدوافع المال والمصالح والتحالفات، وأتساءل عن اليوم الذى ستكف فيه الدوائر الأكاديمية الغربية عن اجترار أحاديث الاختلافات الثقافية بينهم وبيننا وتدرك أن دوافع كذب الحكومات واحدة لديهم ولدينا، وأن قوة الغرب ليست فى «الجودة الأخلاقية» لحكوماته ولا فى النوايا الطيبة للسياسيين الغربيين بل فى حضور سلطة رقابة ومحاسبة شعبية يمثلها الإعلام الحر والمجتمع المدنى المستقل لديهم وغيابها شبه الكامل بين ظهرانينا.