إحياء تراث التنوير فى «طبق الأصل»
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 19 أكتوبر 2018 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
«طبق الأصل» عنوان السلسلة الثقافية الزاهية التى تصدرها دار الجديد البيروتية؛ بعناية صاحبتها ومديرتها المثقفة والروائية رشا الأمير. هذه السلسلة العظيمة أخذت على عاتقها إعادة نشر روائع الأعمال الفكرية والثقافية التى أنتجها أعلام النهضة الفكرية العربية فى القرنين الأخيرين. فكرة السلسلة ببساطة تقوم على إعادة نشر الطبعة الأولى؛ بشكلها وحرف طباعتها وغلافها الأول، وكل ما ظهرت به إلى الوجود فى هيئتها الأولى! من هنا جاء اسم السلسلة «طبق الأصل».
سنوات طويلة، منذ كنت طالبا فى الجامعة، وأنا أحلم بإعادة طبع ونشر الكتب العظيمة التى صدرت فى سلاسل ثقافية عريقة مثل «أعلام العرب» و«المكتبة الثقافية» و«روائع الأدب العالمى للناشئين»، وكنت على وشك البدء فعلا فى مشروع كبير لإعادة إحياء ونشر هذا التراث الرفيع لولا ما يحدث فى كل مشروع ثقافى كبير..
ما علينا فالحديث ذو شجون ولن ينتهى!
المهم أن سعادتى بهذه السلسلة، والكتب الثلاثة التى استهلت بها ظهورها، كبيرة جدا؛ خصوصا أنه صدر بالفعل الكتاب الثالث، منذ أيام قليلة فى بيروت، بعنوان «قصة أسمهان» (لم تصل نسخ منه بعد إلى القاهرة فيما أعلم).
طبعة «طبق الأصل» من هذا الكتاب المهم عن المطربة الشهيرة برواية شقيقها اللدود فؤاد الأطرش، وبقلم الكاتب والصحفى المصرى «الذى يستحق الاكتشاف» فوميل لبيب (بتعبير محررى الدار).
صدرت الطبعة الأولى من «قصة أسمهان» عام 1962؛ أى منذ ستة وخمسين عاما! ولم يعد نشره منذ ذلك التاريخ!
قبل هذا الكتاب صدر فى «طبق الأصل» كتابان من أهم الكتب فى تراثنا الثقافى والفكرى القريب؛ هما «فى الشعر الجاهلى» لطه حسين، و«موسى بن ميمون ـ حياته ومصنفاته» لإسرائيل ولفنسون وتقديم الشيخ مصطفى عبدالرازق.
لم يثر كتاب فى تاريخ الثقافة العربية الحديثة ما أثاره كتاب «فى الشعر الجاهلى» الذى أصدره طه حسين فى مارس من العام 1926، قامت الدنيا ولم تقعد بسبب هذا الكتاب، وتم الزج بالدينى والسياسى فى التفسيرات التى قدمت له، واندلع طوفان من الهجوم الدعائى الجارف ضد طه حسين، وشنت حملة غير مسبوقة على الكتاب وصاحبه لم ينلهما كتاب مثله فى تاريخ الفكر العربى الحديث حتى يومنا هذا.
لكن فى النهاية انقشعت هذه الغيوم مخلفة آثارها، وتبقى من هذا الكتاب الحجر الضخم الذى ألقاه فى مياه الفكر الراكدة، وفتح الباب على مصراعيه لاستيعاب فكرة «المنهج» بمعناها الفلسفى والمعرفى فى الدراسات الإنسانية، والتأكيد على الحق فى طرح السؤال؛ أى سؤال، ومراجعة الأفكار أيا ما كانت.
وبالمناسبة؛ وفى حدود علمى مع توالى الطبعات المختلفة والمتعددة من «الشعر الجاهلى» فى السنوات العشر الأخيرة؛ فإن طبعة «طبق الأصل» تحتفظ بقيمتها التاريخية التى وصلتها بلحظة صدور الكتاب فى صورته الأولى قبل اثنين وتسعين عاما!
أما الكتاب الثانى، النادر، المهم، الذى صدرت طبعته الأولى عام 1936 عن (لجنة التأليف والترجمة والنشر) بعنوان «موسى بن ميمون ـ حياته ومصنفاته»؛ للباحث والمؤرخ اليهودى إسرائيل وليفنسون الذى عمل أستاذا للغات السامية بكلية دار العلوم فى النصف الأول من القرن العشرين، وقبل ظهور ما يسمى بإسرائيل بسنوات طويلة (تخيل!!) فهو من أهم الكتب باللغة العربية، إن لم يكن أهمها، عن الفيلسوف والطبيب والمترجم اليهودى موسى بن ميمون؛ أحد الأسماء المهمة فى تاريخ الفلسفة والثقافة فى العصور الوسطى؛ من تلامذة فيسلوفنا العبقرى «ابن رشد»، هجر قرطبة إلى مراكش ثم استقر بمصر طبيبا خاصا لصلاح الدين الأيوبى.
ومن المهم الإشارة إلى أن من قدم لهذا الكتاب هو العالم الجليل المستنير فضيلة الشيخ مصطفى عبدالرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية وشيخ الجامع الأزهر!
هذه السلسلة تستحق البقاء وتستحق الدعم، وتستحق أن يظهر فيها عشرات من الكنوز والأعمال الرائدة.. لتجد مكانها فى «طبق الأصل». تحية لكل من يساهم فى إظهار ونشر تراثنا الفكرى وأعمالنا الإنسانية الرفيعة فى هذا الزمان.