كراكيب السيد محسن
داليا شمس
آخر تحديث:
السبت 19 أكتوبر 2024 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
كان يدور فى المنزل، أفكاره موزعة بين ذكريات الماضى وهبات الحاضر وحظر التجوال المفروض على المدينة، وهو غير قادر على أن يفعل شيئا. السيد محسن بوسعه أن يكتب مجلدات كاملة عن ونس العيش وسط فوضاه وأشيائه التى كدسها عبر الزمن، وعن الرضا بوجود هذه المقتنيات مهما بلغت تفاهتها. راح يلف ست مرات حول المكتب الخشبى العريض، بالدور العلوى، الذى يطل منه على كامل تفاصيل البيت، وكأنه يجلس على شرفة داخلية، فهندسة المكان خاصة جدا: غرفة المكتب واسعة مفتوحة، ومن خلفها غرفة النوم الرئيسية والوحيدة فى هذا الطابق، وسلم حلزونى يقودنا إلى أسفل حيث صالة المعيشة ومائدة الطعام المستديرة والمطبخ وحجرة أخرى للضيوف إلى جوار الباب.
إيقاع الموسيقى يعلو ويهبط، يحمله، يؤرجحه... يستمع إلى عازفة التشيلو الفرنسية البلجيكية كاميل توماس التى اكتشفها قبل سنوات قليلة وهى تؤدى لحنا شجيا لدونيزيتى من أوبرا «أكسير الحب»، بعنوان «دمعة عابرة» (aria Una furtiva lagrima)، تقول نهاية كلماتها: «أيتها السماء، أنا مستعد للموت الآن، لست أطلب المزيد». يعترف أن اليأس قد احتل قلوب الجميع، وهو نفسه لا يعلم إن كان سيحتمل حتى حلول الظلام. يلتهى بأوراقه الصغيرة المتناثرة هنا وهناك، وآلاف الكتب المرصوصة على الأرفف، ربما لم يقرأ نصفها أو نسى وجوده لأن بعضها يخفى البعض الآخر فلا يتبين ما وراءه، لكنه لم يتخلص قط من ما ليس له قيمة، فهذا ليس من خصاله. لطالما ردد عبارة أينشتاين: «المكتب المزدحم بركام من الأوراق يدل على ذهن مزدحم، فعلام يدل إذًا المكتب الخاوى؟«، اعتاد أن يرد على هذا النحو ممازحًا الذين يسخرون من فوضاه وأشيائه المبعثرة التى لا يذكر على وجه الدقة تاريخ استيطانها المنزل. الكثيرون منهم لا يتوانون عن الاستناد إلى كتابين تحديدا، وهما «فن التخلص من الأشياء»، و«سحر الترتيب»، وكيف يسمح اتباع نهجهما إلى التحرر من الماضى وتوفير مساحة لما هو آتٍ، ويتشدقون بنظريات علم النفس المتعلقة بالاكتناز القهرى أو اضطراب التخزين الذى يعطل الحياة ويعطى إحساسا بعدم الراحة ويؤثر سلبا على الأشخاص، فى حين يرى أنه قد يشعر بالقلق والضغط النفسى بدون هذه الكراكيب، والتفريط فيها مرتبط عنده بالألم، بل يتصور أن التخلص منها يشبه إلقاء واحد من الأحباب فى سلة المهملات.
• • •
يرتفع صوت عزف التشيلو مع سيرة الأحباب، وتتسلل إلى نفسه موسيقى شوبان هذه المرة، مصنف رقم 25 على سلم المينور الحزين، فتتهادى أمام عينيه ذكريات الصبا والطفولة عبر الصور المعلقة على الجدران أو تلك الموضوعة بعناية فى صناديق صغيرة يغطيها تراب خفيف. يمسك بقميص قديم، لم يستطع التفريط فيه لارتباطه به عاطفيا.. تنتهى المقطوعة، لكن يظل صداها بداخله، بعض مؤلفات شوبان المعروفة اكتسبت اسما رمزيا مع الوقت، لكن معظمها ظل بدون عنوان ويحمل فقط أرقام تصنيف. تنطلق بعدها مرثية رومانسية للبيانو والتشيلو من تأليف أوفنباخ، وهى تحمل اسم زوجته الراحلة جاكلين هذه المرة، كما لو أنها كُتِبت خصيصا لها مع أنها ترجع للقرن التاسع عشر. «دموع جاكلين» تفيض بذكرى من تركته وحيدا فى هذا البيت، من لم يملأ مكانها أحد رغم السنين. هو محسن، الصلب كالصخرة، وهى جاكلين، الرقيقة ذات الشعر الكستنائى الناعم التى قبلته بكل «كراكيبه»، الداخلية والخارجية، السياسية والثقافية. كم كان يحلم أن يكبرا معًا، أن تشاركه أعراض الهرم ويتابعا التغيرات التى تطرأ على جسديهما، فلا يفعل هذا من دونها كما هو الحال الآن.
مع مرور العمر، وعلى الرغم من تطور العلوم الطبية، أخذ يراقب عن كثب كيف تتحول الأجساد إلى كراكيب.. تتدلى وتترهل العضلات. يبرز الكرش إلى الأمام وتطفطف منحنياته على الجزء السفلى من البطن وينحنى الظهر قليلا. يعلم أنها كانت ستظل تحبه مهما تغير شكله ومهما خذلته الذاكرة وصار يلخبط فى الكلام وينسى الأسماء. ساعدته فوضاه على الاحتفاظ ببعض ملامح الماضى وعلى استحضار الذكريات السعيدة وعلى عدم التمسك بالتوقعات التقليدية، فأحيانا كان يربط بين الأشياء ــ التى يجدها البعض غير ضرورية ــ بطريقة مبتكرة تعيد صياغة الحكايات.
• • •
تنقله عازفة التشيلو الثلاثينية الشهيرة إلى مرحلة أخرى من التأمل، حين تلعب مقطوعة لماسنيه بعنوان «لماذا أيقظتنى؟».. بدأ اليوم متثاقلا، لكن الآن اختمرت الفكرة فى رأسه: عليه أن يحرق كل هذه الأشياء التى رفض التخلى عنها سابقا، حتى لا يتركها للغرباء واللصوص أو لجنود الاحتلال يعبثون بها، كما شاهدهم يفعلون فى الفيديو. يعرف أنه مضطر للرحيل إن عاجلا أم آجلا، وهو لا يحب النهايات المفتوحة التى قرأ عنها وشاهدها فى الأفلام. يعيش فى وطن «مكركب» فسد نظامه واضطرب، وهو يعلم ذلك لذا يفضل أن يتحكم على الأقل فى مصير أشيائه الخاصة. قرر أن يُتلف مقتنياته على الملأ: خطاباته الغرامية، معطف أبيه، إسطواناته،... للحظة شعر أنه يشاهد موته وهو يراها عمودا من الرماد، ثم هبت أول نسمة فبعثرتها إلى الأبد.. مثل كل شىء جميل يرحل. ووقف فى الحديقة يسترق السمع إلى مقطوعة التشيلو التالية التى وصلته نغماتها من بعيد عبر المكتب، كان على موعد مع أغنية فولكلورية إسبانية قديمة أعاد توزيعها العازف والمؤلف الماهر، بابلو كاسالس. تغريد العصافير يملأ أذنيه، حاول ما استطاع ألا يسمع شيئا سواه، فأصوات هذه الطيور ستكون تقريبا آخر ما سيأخذه معه. «أغنية الطيور» لكاسالس كانت مهداةً إلى اللاجئين حول العالم، ونال عنها ميدالية الأمم المتحدة للسلام فى مطلع سبعينيات القرن الماضى، وهو الآن على بداية طريق اللجوء. الأغنية جميلة تسكن كل من يسمعها وتتسرب منه لسواه.