الحس الدستورى

سمير مرقس
سمير مرقس

آخر تحديث: الإثنين 19 نوفمبر 2012 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

يمكن القول إن هناك «لحظة دستورية» يعيشها المصريون بامتياز. نعم لحظة دستورية ينتابها إحساس البعض ـ ما وصفناه مبكرا ـ «بالغلبة»؛ وأن من حقهم وضع الدستور لأن الأغلبية البرلمانية تمنحهم ذلك، رغم أن الكتابة الدستورية تقوم ـ مفهوما ـ على الشراكة الوطنية على قاعدة التوافق.  إلا اننا يمكن أن نرصد أن اللحظة الدستورية ـ ذاتها ـ تعكس لنا جهدا يبذل فى مواجهة الغلبة لجعل الدستور ـ بحق ـ ثمرة للشراكة بين المصريين. فواحدة من نتائج 25 يناير هو أن هناك حسا دستوريا قد نشأ بين المصريين ـ بدرجة أو أخرى ـحصيلة هذا الحس الدستورى  ما رأيناه من إبداعات ومساهمات معتبرة فى وضع دستور جديد مستحق لمصر الجديدة.

 

فعلى مدى العامين الماضيين يمكن رصد ما يلى: وثيقة الأزهر، وثيقة التيار الرئيسى، وثيقة البرادعى، وثيقة هشام البسطاويسى، وثيقة المجلس الوطنى، ووثيقة الدستور الشعبى، وثائق مؤتمر الوفاق القومى الذى رعاه الدكتور يحيى الجمل (مجموعة اوراق بحثية حول الدستور فى ابعاده المتنوعة تصل إلى أكثر من 40 دراسة)، ووثيقة الدستور الثقافى المصرى، ووثيقة المنظمات الأهلية، ووثيقة السلمى، وثيقة التحالف الوطنى...الخ.

 

ويبدو لى أن تعدد الأطروحات الدستورية والفكرية التى تحاول أن تعبر عن ما أنجزه شعبنا بتعدديته من جهة، وأن تضع صياغات لقيم ومبادئ يتم التوافق عليها من جهة أخرى، إنما تعكس أن هناك طلبا وحاجة لمثل هذه الأطروحات. كذلك حاجة لاستعادة تراثنا الدستورى والبناء عليه لا الانحراف عنه وأخيرا ضرورة أن نطل على خبرات الآخرين. وأظن اننا سنكتشف المدى الذى بلغه الآخرون فى إنجاز الدساتير سواء أسلافنا بداية من شريف باشا أو البلدان الأخرى...لماذا وكيف؟

 

وضع الدساتير ليس صنعة يقوم بها «صنايعى» أو أكثر، وإنما هى «عملية» وطنية يضلع فيها كل ألوان الطيف الوطنى. وتكون مناسبة لتجديد المعارف القومية بمجالاتها المختلفة: علم السياسة، وعلم الاجتماع، والفقه واللاهوت والفلسفة، والجغرافيا، الخ...كذلك فرصة لانفتاح علوم على أخرى فإذا كنا نتحدث عن نقل الأعضاء فلابد من تواصل ما بين من أنجز فى هذا المجال عالميا وبين الطب المحلى وبين العلوم الانسانية المرتبطة بهذا الموضوع، وهكذا.

 

وعليه فإن وضع الدستور هو احتفالية وطنية معرفية تجديدية مفُرحة، لأنها تتعلق بالمستقبل فى ضوء ما أنجز من تغييرات. وعليه فالنص الدستورى ليس:

 

●نصا أخلاقيا،

 

● نصوصا إنشائية ترص إلى جوار بعضها البعض،

 

● أو نصوصا عامة لا يربط بينها رابط،

 

● إنه عمل إبداعى يقوم على فلسفة مركبة تعكس موقفا على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.

 

●●●

 

وهو ما يحتاج إلى ما أطلق عليه «الحس الدستورى»، وأعنى به القدرة على التأكد من أن المنتج يرقى إلى أن يطلق عليه «دستور»؛ من حيث:

 

● انعكاس لحظة التغيير فى النص المنتج، وفى حالتنا الراهنة لابد من التأكد أن روحية 25 يناير بما حملت من أحلام وشعارات وممارسات متجسدة فى النص الدستورى بنيويا وليس شكليا، فعلى سبيل المثال: ألا تستحق الكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية بابا خاصا كونهما من مطالب 25 يناير مع توفير تعريفات لهما ـ كما فعل الدستور الهندى فى إضافة تعريفات وتفسيرات للنصوص المذكورة على مدى النص. أيضا ولأن أكبر عملية نهب لأراضى الدولة عرفتها مصر خلال العقدين الأخيرين الا يستحق هذا الأمر نصا مطولا مع إجراءات دستورية لمنع عدم تكرار هذا الأمر (يمكن مراجعة الدستور البرازيلى فى هذا الأمر)،...الخ. وألا يستحق الشباب (50% من سكان مصر تحت سن الـ25 ) باعتبارهم  القاعدة الاجتماعية للحراك الذى جرى فى 25 يناير فصلا خاصا فى الدستور وهكذا. 

 

● وجود رابط بين النصوص يعكس وحدة بينها تعكس التوافق من جهة، والرؤية المفاهيمية التى تحكم النص. وهو ما يعصم النص من أن يكون «دستورا من ورق» بحسب عنوان الكتاب الشهير . وأذكر فى هذا السياق، أننا كنا فى ندوة سنة 2007 تناقش التعديلات الدستورية التى أجراها النظام السياسى آنذاك. وقال أحدهم (أحد اساتذة القانون) أن على الأقباط ان يطمئنوا بأن مبدأ المواطنة قد أضيف فى صدر الدستور وعلى التيار الإسلامى أن يهنأ بذكر الشريعة فى المادة الثانية واستفاض فى هذا الحديث بمنطق أن كل طرف يمكن أن يجد ما يخصه فى الدستور. فقلت له وكنت أدير الجلسة «هذا دستور على طريقة كل واحد يأخذ باله من مادته».  ما هكذا تكتب الدساتير، حيث كل طرف لا يعنى إلا بما يخصه وفى إطار سياسى ضيق بلا علم أو معرفة بالتراث الدستورى الوطنى، أو الموجات الدستورية الجديدة.

 

● مدى توافق النص مع كل من: التراث الدستورى الوطنى والعالمى وأنه يمثل خطوة إلى الأمام لا ردة إلى الخلف، فمن غير المقبول ـ بحسب الأعراف الدستورية ـ أن يكتب نصا فى زمن من الأزمان بدرجة من التقدم ونجدها فى الدستور الحالى مكتوبة بدرجة أقل تقدما. أو أن يكتب نصا فى وقت من الأوقات بصورة مطلقة دون شروط أو قيود ونجده يكتب الآن مقيدا ومشروطا.

 

● مدى توافق النص مع الموجات الدستورية الجديدة. فمن غير المنطقى أن ننتج دستورا غير متطابق مع المعايير التى بلغتها الانسانية فى إصدار الدساتير. فلقد فات زمن طويل بين الموجة الأولى من الدساتير منذ وقت الثورة الفرنسية، مرورا بدساتير الدول المستقلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبين الموجة الثالثة ـ وربما الرابعة ـ للدساتير لدول مثل جنوب أفريقيا ومراجعات واضافات وتعديلات كثير من دول الموجة الأولى والثانية. حيث نجد تطورا فى كل شيء من حيث بنية الكتابة الدستورية وتقسيمات الأبواب وذكر كثير من التفاصيل ـ لأن الأمور باتت معقدة ـ وليس كما كانت من قبل. ففى البدايات كان الاهتمام بالحقوق والحريات بالمنهجية التى وضعتها الثورة الفرنسية. ثم اصبحت هناك ضرورة للحديث عن مقومات الدولة وطبيعتها. ثم باتت هناك ضرورة من الحديث عن المقومات الاقتصادية. وأخيرا لأن المجتمعات صارت أكثر تعقيدا فكان من اللازم الحديث عن نظام المحليات والبلديات. كذلك لأن الاقتصاد ونظامه صار متشعبا ومتداخلا بين الوطنى والعالمى صار لزاما الحديث عن كثير من الأمور (وهنا لابد من مراجعة الدساتير الهندية والبرازيلية واليابانية). لم يعد هناك دستور لا يقترب من علاقات الانتاج وضرورة ضبطها وتوازنها...الخ.

 

● كما لا يمكن أن يصدر الدستور الجديد دون أن يشير من قريب أو بعيد ـ أو بشكل عابر ـ لما يعرف بالموجات الحقوقية الجديدة والتى يقصد بها ما يلى:

 

ــ الحقوق الرقمية،

 

ــ الحقوق البيئية،

 

ــ حقوق المعاقين،

 

ــ حقوق الملكية الفكرية،

 

ــ زرع / نقل الأعضاء.

 

ــ الحقوق الرياضية،

 

ــ الحقوق الغذائية،

 

●●●

 

الخلاصة، بالرغم من محاولة تصوير النقاش الدستورى باعتباره خلافا بين رؤيتين ـ وهو أمر صحيح فى مستوى من المستويات ـ إلا أنه فى تقديرى نقاش باثر رجعى. ولن يخفى هذا النقاش الجدل الحقيقى حول الواقع المجتمعى بمعناه المركب، وهو ما تعبر عنه الحوارات المجتمعية خارج التأسيسية والتى تتجلى فى مساهمات عدة تتجاوز النقاش الاستقطابى الثقافى والتى تعكس حسا دستوريا متناميا. وهو ما نفصله لاحقا.

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved