العلوم الاجتماعية والسياسة
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 19 نوفمبر 2016 - 11:20 م
بتوقيت القاهرة
أثار فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة فى انتخابات يوم الثامن من نوفمبر عاصفة من الهجوم على دراسة الرأى العام وتحليله، وعلى علم السياسة ودارسيه. استطلاعات الرأى، غير قليل منها، والغالبية الساحقة من دارسى علم السياسة ــ ومنهم كاتب هذه السطور ــ سلّموا بأن مرشّحة الحزب الديمقراطى هيلارى كلينتون ستخرج منتصرة وأنها ستكون خليفة الرئيس الحالى باراك أوباما. حبر كثير أريق فى العالم أجمع وفى مصر لتفسير انتخاب ترامب. المعلِّقون أشاروا إلى متغيرات مثل نتائج العولمة على المجتمع الأمريكى، وهى نتائج منها الاقتصادى، والاجتماعى، والسياسى. النتائج الاقتصادية والاجتماعية جعلت العمال ــ خاصة كبار السن والبيض منهم ــ يصوِّتون لترامب الذى ندد بهذه العولمة ووعد بعرقلة تحرير التجارة العالمية، وبمحاربة الهجرة إلى الولايات المتحدة باعتبار أن المهاجرين يحرمون المواطنين الأمريكيين من فرص العمل المتاحة والمتناقصة بعد تصفية التصنيع وهروب هذه الفرص إلى الخارج، خاصة إلى المكسيك والقارة الآسيوية، من جانب، وأنهم، أى المهاجرين، يشوهون الثقافة الأمريكية، إن كانوا من أمريكا اللاتينية، بل ويشكلون خطرا على أمن الولايات المتحدة إن كانوا مسلمين، تهاجر معهم بالضرورة أفكارهم المتخلفة والعنيفة والإرهابية، من جانب آخر.
المعلقون أشاروا إلى فساد حجج ترامب، وإلى منافاتها للواقع والحقيقة، وذهب الكثير منهم إلى اعتبار أن تصديق الناخبين لها وسلوكهم الانتخابى على أساسها فيه تهديد للنظام الديمقراطى المؤسس على انتخابات تنافسية. خطورة هذا التهديد مضاعفة فى رأى هؤلاء المعلقين لأنها أتت بعد خداع آخر دعا الناخبين البريطانيين إلى اختيار الخروج من الاتحاد الأوروبى فى استفتاء يونيو الماضى. معلقون عديدون أشاروا أيضا إلى أن التصويت لصالح ترامب كان تصويتا ضد النخبة السياسية، فى تحالفها مع النخبة الاقتصادية، تلك النخبة التى انفصلت عن متابعة التطورات فى المجتمع الأمريكى وفى هموم الناخبين الأمريكيين وتطلعاتهم.
هذا المقال لا يبغى تناول الحجج التى ساقها المعلقون لتفسير انتخاب ترامب أو أثره على مستقبل الديمقراطية. المقال يوردها لكى يتناول العلاقة بين العلوم الاجتماعية، علم دراسة الرأى العام وعلم السياسة تحديدا، من جانب، والسياسة باعتبارها عملية اجتماعية هدفها تحقيق مصالح الناس أفرادا وجماعات، من جانب آخر. تفحص هذه العلاقة ضرورى للتعامل مع الهجوم الضارى على هذه العلوم وعلى قدرتها على التنبؤ بالسلوك الإنسانى.
***
إن سلمنا جدلا بأن العلوم الطبيعية والعلوم المسماة بالدقيقة تصل فى أبحاثها إلى نتائج موقونة، فإن هذه ليست حالة العلوم الاجتماعية. العلوم الطبيعية والدقيقة تتعامل مع جماد أو أجهزة حيّة لا إرادة لها، أو مع مفاهيم مجردة ورموز كما هى الحال فى الرياضيات. التمعّن فى العلوم الطبيعية والدقيقة نفسها يكشف عن أنه حتى فى حالتها فاليقين متعذر. أليس مستمرا التقدم فى علوم المعادن والفسيولوجيا والكيمياء والفيزياء؟ أليس فى هذا التقدم نسخ لما سبقه؟ أليست ميكانيكا الكم تفسيرا لحركة الأجسام وإمكانياتها تتخطى ميكانيكا نيوتن التى طال الاعتقاد لقرون أنها الكلمة النهائية فى سكون الأجسام وفى حركتها؟ ألا تعتبر نظرية النسبية التى كانت عنوان التقدم فى بداية القرن العشرين قديمة وعفا عليها الزمن فى القرن الحادى والعشرين؟ نفس العلوم الطبيعية والدقيقة ليست ثابتة. على أى حال، تعريف العلم هو أنه ما هو قابل لإثبات خطئه. الخطأ ليس إنكارا للعلم بل هو إثبات له. العقيدة تؤمن بها أو لا تؤمن. هى ليست قابلة لأن تثبت خطأها، وبالتالى سلامتها. هذا ما يفرّقها عن العلم.
الرياضيات البحتة تتعدّد فيها المتغيرات وتتعدّد، وتتباين مقاييس كل منها والافتراضات وراء هذه المقاييس وبالتالى التفاعل بين المتغيرات، فتتعقد المعادلات الرياضية وتطبيقاتها فى الفيزياء مثلا. الحاسوب ــ أو الكمبيوتر ــ جاء ليسهِّل لعلماء الرياضة عملهم وليحلّ لهم معادلاتهم المعقدة. إن كان واحد من المتغيرات مجهولا، فإن التفاعل بين المتغيرات الأخرى يكشف عنه. المهم أن المتغيرات الأخرى تخضع لما يفترضه لها من يطرح المسألة الرياضية أيا كان تعقيدها.
العلوم الاجتماعية عكس ذلك. العلوم الاجتماعية تكتشف المتغيرات وتحددها، وهى كلما تقدمت زاد عدد المتغيرات التى تحددها، ولكن الفارق الكبير مع العلوم الطبيعية والدقيقة هو أن هذه المتغيرات ليست خاضعة لما يفترضه الباحث فيها. المتغيرات تتعلق بالإنسان وسلوكه سواء الفردى أو الجماعى فى إطار تجمع بشرى. الإنسان له إرادته الحرّة والبشر فى جماعة لهم إراداتهم الحرّة، وهذه الإرادات لا تأبه بما يفترضه لها الباحثون والمحللون. فى افتراضاتهم، يعتمد الباحثون والمحللون على سابق السلوك الإنسانى فيتوقعون ما سيصير إليه هذا السلوك فى المستقبل ولكن البشر قد يغيرون اتجاه سلوكهم فجأة أو قد يبدلونه تدريجيا دون أن يفطن المعلقون والمحللون لهذا التغيير لأن أدوات الرصد لديهم تعتمد على ما سبق رصده، ثم لأن للتقدم العلمى قوانينه التى لا تتفق بالضرورة مع تطور المجتمعات.
إن كانت المتغيرات عصية على الباحث وأنها يمكن أن تتمرد عليه، فكيف يمكن الوثوق فى النتائج التى يتوصل إليها البحث فى العلم الاجتماعى؟ بالفعل، لا يمكن الوثوق تماما فى نتائج البحث فى العلم الاجتماعى، ولكن هذا من الخصائص اللصيقة بالعلم الاجتماعى التى تميزه عن العلم الطبيعى أو الدقيق الذى يُزعمُ أنه يمكن الوثوق فى نتائج البحث فيه. هذا التمييز من الجدير الانتباه إليه لأنه وحده الذى يؤسس لقبول نتائج البحث فى العلم الاجتماعى على أنها احتمالات وليست «حقائق» لا منازعة فيها. هذا التمييز لا يهدم العلم الاجتماعى بل هو يبيِّن صعوبته وينبِّه المتلقى إلى حدوده. افتراض أن العلم الاجتماعى ينتج يقينا هو الخطأ، وليس الخطأ فى العلم الاجتماعى.
***
بناء على ما تقدم، فإن علم دراسة الرأى العام وعلم السياسة ينتجان معرفة. هى معرفة استدلالية تكشف الحقيقة فى الغالب الأعم من الحالات، ولكنها مع ذلك تحتمل الخطأ. فى الولايات المتحدة الخطأ الأعظم فى انتخابات الرئاسة الأمريكية كان فى سنة 1948، عندما أعلنت استطلاعات الرأى، بل وصدرت الصحافة، تعلن فوز توماس ديوى المرشح الجمهورى قبل أن يتضح أن هارى ترومان، الرئيس الديمقراطى فى ذلك الوقت، هو الذى جدد له الناخبون الأمريكيون ثقتهم. منذ 1948، جرت 17 انتخابات رئاسية ولم تقع استطلاعات الرأى فى أى منها فى نفس الفشل حتى انتخابات الشهر الحالى التى فازت فيها المرشحة الديمقراطية بالعدد الأكبر من الأصوات فى مجمل أنحاء الولايات المتحدة، وإن كانت انهزمت فى المجمع الانتخابى الذى يعكس النظام الاتحادى الأمريكى. إذا ما رجعنا إلى سنة 1948، سنجد أن نسبة الخطأ هى أقل من 6 فى المائة، وهى نسبة تؤكد طبيعة العلوم الاجتماعية ولا تدحض الثقة فيها.
ثم إن الـ6 فى المائة هذه مطلوبة فى السياسة، وهى تتفق مع طبيعة الديمقراطية ومع طبيعة الانتخابات فيها، ونتائج هذه الانتخابات تحديدا. السمة الجوهرية للانتخابات الديمقراطية التنافسية هى أنها مفتوحة ونتائجها ليست معروفة مسبقا. التأكد من نتائج الانتخابات قبل إجرائها هو نفى للانتخابات التنافسية وإنكار للديمقراطية ذاتها. النظم التسلطية تهندس الانتخابات وتتحكم فى مجراها حتى تتأكد من نتائجها مسبقا. السياسة أيضا عملية مفتوحة، نتيجة التفاعلات بين القوى السياسية والاجتماعية يمكن توقع مآلها ومجراها ولكن لا يمكن التيقن من نتائجها. نقص اليقين وتعدد المسارات الممكنة يقض مضاجع المتسلطين، فهم فى نهاية الأمر يعافون الاحتمالات المتعددة ويرغبون فى التسلط على المتغيرات يخضعونها لما يريدونه، وعندما يفشلون فى إخضاعها يزيدون من تسلطهم لعل التسلط ينجح هذه المرة، وهكذا دواليك، فى دائرة مفرغة من التسلط والفشل، حتى ينهار المتسلطون والمتسلط عليهم معا. التاريخ كله أمثلة على فشل التسلّط.
***
السياسة لا توجد وراءها يد توجهها. التسلطيون، وأنصار التسلط، ومن لا يتصورون الحياة بدونه يصعب عليهم قبول ذلك. هم يستحيل عليهم قبول التفاعلات الحرّة ويتصورون أن وراء السياسة دائما يدا. ولأنها خفية فهى يد التآمر. من هنا العلاقة الوثيقة بين التسلط وحديث المؤامرة، وهو حديث فيه إنكار للسياسة وللعلوم الاجتماعية وازدراء لها.
فى الوقت الذى تتفاقم فيه المحنة الاقتصادية التى يعيشها المواطنون فى مصر، والذى يقتل فيه المجتمع المدنى بقانون صاغه مع سبق الإصرار والترصد أولئك المفترض فيهم حماية المجتمع، وبعد أن لقى المجتمع السياسى بالفعل مصرعه، حرىٌّ بنا أن نتزوّد بما تدلّنا إليه العلوم الاجتماعية وأن نعمل على تنمية هذه العلوم مع الانتباه دائما إلى أنه لا كلمة نهائية فيها، وهى لا تدّعى ذلك، لأن موضوع هذه العلوم هو الإنسان وتجمعاته. والإنسان فى تجمعاته لا يمكن السيطرة عليه وتوقع كل أفعاله وردود أفعاله، مهما كانت سطوة التسلط والأجهزة التى تمارسه.
السياسة نقيض التسلط وهى أكثر سموّا منه. فى السياسة وفى تفاعلاتها الحرّة استقرار المجتمعات وأمنها الحقيقى.