الشعب بين السياسات الكبيرة والصغيرة!
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 19 نوفمبر 2016 - 11:30 م
بتوقيت القاهرة
منذ الأيام الأولى للثورة وهناك صراع بين فرضيتين رئيسيتين، الأولى تقول إن الناس ثارت من أجل لقمة العيش، والثانية تقول إن الناس ثارت من أجل الكرامة والحرية والديمقراطية! لا شك لدى أن الفرضيتين كانتا حاضرتين فى ذهن الملايين الذين شاركوا فى الثورة المصرية، هناك الشباب الذى تحرك بالأساس كرد فعل غاضب على انتهاكات حقوق الإنسان مدفوعا بالرغبة فى تحسين أوضاع الحقوق والحريات فى مصر، هناك من حاول أن يرفع سقف الطموحات السياسية فى مصر من مجرد المطالبة بإقالة وزير الداخلية وقتها ــ حبيب العادلى ــ إلى المطالبة برحيل النظام! وهناك عموم الجماهير التى شاركت من أجل المطالبة بأوضاع معيشية أفضل ولا مانع بالقطع من الطمع فى تحقيق تغييرات سياسية طموح إن كان ذلك ممكنا. رفعت الثورة سقف المطالب ومعها سقف التوقعات، لكن الإحباط كان سيد الموقف بعد شهور قليلة!
فى يوليو ٢٠١٣ كان الوعد حاضرا، طالما فشلت السياسة، فسلموا الراية والملعب مرة أخرى لأجهزة الدولة، الجيش والشرطة والقضاء تحديدا، من أجل إدارة اقتصادية أفضل، سلموا السياسة مقابل الاقتصاد! وعد يوليو بدوره لم يصمد كثيرا إما بسبب التحديات الأمنية والعمليات الإرهابية ومعها انتهاكات حقوق الإنسان التى استنزفت البلاد فى صراعات واستقطابات سياسية حادة، وإما بسبب صراع المصالح وعدم توازن القوة بين مكونات تحالف يونيو/ يوليو الذى كان هشا للغاية ولم يصمد كثيرا، أو بسبب إصرار أجهزة الدولة على إدارة الشأن العام بنفس الأساليب القديمة التى تؤمم السياسة وتجعلها رهينة للحسابات والرؤى الأمنية الضيقة.
التذمر من الأوضاع الاقتصادية حاضر بقوة بين الناس الآن، وبغض النظر عن أنه من الصعب التكهن بما إذا كان هذا التذمر سيتحول إلى فعل شعبى غاضب عنيف أم لا، إلا أنه من السطحية والسذاجة السياسية أن تصل رسالة خاطئة إلى النظام الحاكم مفادها أن الشعب «راض» أو أن الشعب «انتهى» و«سلم» وأنه لن تقوم له قائمة مرة أخرى! لعب على إيصال هذه الرسائل بعض الإعلاميين المحسوبين على الأجهزة الأمنية خلال الفترة الفائتة محاولين تغطية الرسالة بكلام من عينة الشعب «الوطنى» أو الشعب «الواعى» ولا حاجة للتذكير بخلفيات هؤلاء ولا بمستوى تفكيرهم ولا حتى بحقيقة دورهم!.
إعلامى واحد فى تقديرى كان يدور فى فلك مختلف تماما، فقد كانت ــ ومازالت ــ حلقات برنامجه نموذجا استثنائيا للتشبيك بين أجهزة الدولة وبعض المنظمات الأهلية فضلا عن رجال الأعمال فى تبنى حملات قومية لها أثر مجتمعى لافت للنظر! فخلال الأسابيع القليلة الماضية ومنذ بداية شهر أكتوبر وأنا أتابع حلقات برنامج «كل يوم» بفقراته المتنوعة على فضائية «ON»، والذى يقدمه الإعلامى عمرو أديب، كل يوم ولأغراض بحثية بحتة أقوم بمتابعة الحلقات على موقع القناة على «يوتيوب»، فأظل بين مدد تتراوح بين الساعتين والثلاث متابعا للحوارات والفقرات والمداخلات المتنوعة والمختلفة!.
خلال هذه الأسابيع الفائتة تابعت تناول البرنامج لستة من الحملات الكبرى، الأولى كانت حملة لدعم وإنقاذ مدينة «الزعفرانة» الغارقة بمحافظة البحر الأحمر بسبب السيول، والثانية كانت حملة لإنقاذ بعض قرى أسيوط للسبب نفسه، والثالثة كانت لتوفير «مليون» بطانية لتوزيعها على الأسر الفقيرة فى محافظات الصعيد، والرابعة لتقديم بعض السلع الأساسية بتكلفتها فى بعض مناطق محافظة سوهاج، أما الحملتان الخامسة والسادسة فقد كانتا لدعم مستشفيات الأطفال فى أبو الريش بالقاهرة والشاطبى بالإسكندرية.
فى هذه الحملات جميعا، قام برنامج «كل يوم» بإيفاد مراسلين، والتنسيق مع الجيش وأجهزة الدولة التنفيذية، قام بالتشبيك مع رجال الأعمال وبعض المنظمات الخيرية لدعم هذه الحملات! نحن لا نتحدث هنا عن حملات عشوائية أو محدودة أو تجميلية، نتحدث عن حملات قومية من شأنها أن تحدث تغيرا بالفعل فى حياة بعض البشر هنا أو هناك لدرجة أن مشروع دعم مستشفى أبو الريش لم يكتف فقط بالدعم المادى، ولكن تخطاه إلى دعم إعلامى وترويجى لأنشطة المستشفى وتغيير رقم حساب التبرع لها ليكون أكثر سهولة، فضلا عن دعم آخر للتطوير الإدارى!
***
أتفهم تماما الانتقادات التى توجه إلى «عمرو أديب» كشخص سواء بسبب أسلوبه أو مواقفه السياسية! كما أتفهم بالقدر نفسه أن البعض ومنهم كاتب هذه السطور قد «لا يبتلع» مثل هذه الأدوار استنادا إلى افترضات واعتبارات كثيرة، منها مثلا أنه قد يتم اعتبار أن هذه الأدوار «تسكينية» أو«تجميلية» أو «تنفيسية» لمساعدة النظام على الخروج بأقل الخسائر من الظروف الاقتصادية والسياسية الطاحنة التى يمر بها الوطن، أو حتى بسبب التساؤل البسيط عما إذا كان هذا هو دور برامج الـ«توك شو» أم أنه دور الدولة! فضلا عن التساؤل الأبسط عما إذا كانت هذه حلول دائمة أم مجرد حلول مؤقتة قد لا تدوم طويلا بسبب فقر الإدارة أو الفساد أو سوء التوزيع وغياب سياسات العدالة الاجتماعية!
كل التحفظات السابقة فى محلها تماما ولكنها تتجاهل الزاوية الأهم وهى «كيف يراها الناس» وخصوصا أولئك الذين يعيشون اليوم بيومه محرومون من أبسط الحقوق الاقتصادية والصحية والاجتماعية فى الحياة؟! الحقيقة أن هناك مليون مواطن أو أكثر سيشعرون بالدفء فى الشتاء بسبب هذه الحملات! هناك آلاف المواطنين المطحونين ممن لديهم أطفال يعانون من متاعب صحية جمة سيجدون أخيرا متنفسا لعلاج فلذات أكبادهم من الأمراض والآلام! هناك مئات أو آلاف من الأسر التى ستتمكن من الحصول على بعض السلع الغذائية بأسعار معقولة ستقيهم ولو ليومين أو ثلاثة من نار الأسعار المرتفعة لبعض السلع الأساسية بفرض توافرها من الأصل! هناك مئات البيوت التى تمكنت من تهدئة روع عائلاتها بعد أن تم إنقاذ بيوتهم ومحالهم من السيول وربما تعويض بعضهم وإعادتهم إلى الحياة الطبيعية! بعبارة أخرى فمهما كانت التحفظات على هذه الأدوار المجتمعية لهذا البرنامج ومثله فهناك من تشبث بالأمل ومن أعاد بث إيمانه بالله والوطن والمستقبل لأن بعض آلام الحياة قد تم تخفيفها عنه!
***
يذكرنى هؤلاء جميعا بموقف واجهته فى آواخر عام ٢٠١١ حينما كنت أقوم بحملات توعية فى إحدى المناطق الفقيرة على طريق «القاهرة ــ السويس» بمفاهيم الانتخابات والبرلمانات حينما اقتربت منى سيدة بسيطة مقاطعة الحديث بحسن نية وبساطة لتسألنى كيف يمكن لها الحصول على رغيف العيش من الفرن الذى يقبع فى آخر الشارع دون أن ينفد العيش مبكرا بسبب سرقة الدقيق! تساؤل بسيط ولكنى لم أتمكن من الرد عليه! ذهبت وجئت يمينا ويسارا وحاولت أن أقنعها أن الحل هو أن تختار النائب الأنسب حتى يحارب سارقى الدقيق ومهربيه، لم تقتنع السيدة ولم أتمكن من إقناعها، فقد كنت أعتقد وقتها أنى أقوم بالعمل الأعظم فى الوجود، عمل التطوع فى رفع التوعية السياسية والذى هو أفضل من أن أعطى أحدهم مبلغا من المال فى جيبه أو أجد لإحداهن عملا فى البيوت لسترتها وأولادها بعد أن فقدوا عائلهم الوحيد الذى مات أو حُبس أو «طفش» من مسئولياته! هكذا تخيلت، وهكذا لم أتمكن من إقناع أحد، ليس لأنى مخطئ أو سيئ النية، ولكن لأنى لم أدرك ببساطة درجة «إلحاح» مشكلات الناس التى تعيش حرفيا بعيدا جدا عن قاع خط الفقر وحلمها فقط أن تتلامس معه!
سُيفضِّل جائعا أن أعطيه جنيها بدلا من أن أعطيه محاضرة عن الديمقراطية لأنه يريد أن يأكل «الآن»! ستفضل إحداهن أن أجد لها عملا ولو مؤقتا فى البيوت عن أن أشرح لها معنى الدستور والقانون لأنها تريد توفير قوت أبنائها «الآن»! أما صاحبتنا السائلة عن كيفية توفير العيش فى الفرن ومواجهة سرقة الدقيق فلم تقتنع بكلامى لأنها كانت تريد أن ترسل أبناءها فى الصباح إلى فرن العيش فيرجعوا إليها ببضعة أرغفة بدلا من ساعات من الوقوف فى الطوابير ثم العودة بخيبة الأمل لأن «الدقيق قد نفد»!
***
متابعتى لبرنامج «كل يوم» جعلتنى أدرك ما لم أكن أدركه من قبل، الناس المنهكة والمنتهكة فى بلادنا لا تشغل بالها كثيرا بالسياسات الكبيرة، سياسات الرئيس والبرلمان والقوانين والرقابة والمحاسبة ودور الجيش وموقف القضاء... إلخ، ولكن كل همهم هو تأمين سياستهم الصغيرة، تأمين رغيف العيش ولو «حاف»، علاج مجانى لابن يتألم ويكتوى بنار المرض، غطاء تلتحف به سيدة مسنة تكسر عظمها من البرد، لا يهم كيف ومتى وبأى طريقة! لا يهم إن كان ذلك مؤقتا أو دائما، لا يعنيهم كثيرا من أين أتى رجال الأعمال بأموالهم، أو ما إذا كان النظام جيدا أم سيئا أو ما إذا كان قانون التظاهر مخالفا للدستور أم لا! هم يريدون شيئا واحدا وبسيطا ويريدونه «الآن»، ألا وهو البقاء على قيد الحياة!
أعرف كما يعرف غيرى أن السياسات الكبرى هى شرط أساسى لتغيير السياسات الصغرى، لكن لا يعرف هذه المعادلة من يعيش فى دوامة الحياة اليومية فقيرا جائعا متعبا منهكا! وحتى وإن عرف فهو لا يملك طاقة التغير، وإن امتلك طاقة التغيير فإنه لا يملك طاقة الانتظار!.
كيف نحل هذه المعضلة دون التكبر على الناس والانفصال عن أوجاعهم ونعتهم بما ليس فيهم أو هو فيهم ولكن ليس ذنبهم؟ هذه معضلة ودعوة للنقاش!