درست العلاقة بين الدين والدولة فى مصر وتركيا لسنوات، لكن فاجأنى صديقى أستاذ التاريخ العثمانى بمعلومة لم أكن أعرفها، وهى أن أحدا من سلاطين الدولة العثمانية لم يذهب إلى الحج منذ تأسيس الدولة العثمانية فى العام 1299 على يد عثمان الأول، وحتى قرار مصطفى كمال أتاتورك إعلان الجمهورية التركية فى العام 1923. ثمة رواية حول أداء السلطان بايزيد الثانى فريضة الحج قبل تولّيه الحكم مباشرة، ورواية أخرى حول حج السلطان عبدالحميد سرا، إلا أنهما تظلان روايتَين غير مؤكدتين.
دفعنى هذا الأمر إلى البحث عمَّن قام بالحج من خلفاء الدولة الإسلامية وسلاطينها، وعما إذا كانت تلك الملاحظة حول عدم قيام سلاطين الدولة العثمانية بالحج تنطبق أيضا على فترات أخرى من تاريخ الدولة الإسلامية. كتب المقريزى كتابا كاملا حول هذا الأمر تحت عنوان «الذهب المسبوك فى ذكر مَن حجّ من الخلفاء والملوك» فى العام 1438. وقد بدأ المقريزى كتابه بوصف حجة الوداع للرسول، ثم قسم الكتاب إلى قسمين، الأول تطرّق إلى مَن حجّ من الخلفاء خلال فترة خلافته، أما القسم الثانى، فعرض فيه المقريزى مَن حجّ من الملوك والسلاطين بعد أن انقسمت الخلافة الإسلامية إلى ممالك عدة. وقراءة الكتاب تشير إلى حقب تاريخية عدة لم يقم حكامها بفريضة الحج كما هو حال الخلفاء الأمويين فى الأندلس، الذين يعود عدم قيامهم بالحج على الأغلب إلى سوء علاقاتهم بالدولتين العباسية والفاطمية، اللتين تناوبتا السيطرة على الأراضى المقدسة فى الحجاز. كذلك لم يقم أيّ من ملوك بنى أيوب فى مصر، بمَن فيهم صلاح الدين الأيوبى، بفريضة الحج، ويعود هذا الأمر فى الغالب إلى انشغالهم بالحروب ضد الصليبيين.
• • •
أما فيما يتعلق بالدولة العثمانية، فتشير الأبحاث التاريخية إلى أن أحدا من سلاطينها لم يقم بأداء فريضة الحج بنفسه حينما كان فى سدة الحكم، وإن كان ثمة جدل حول ما إذا كان بايزيد الثانى، ثامن سلاطين الدولة العثمانية، قام بالحج. فقد قرر بايزيد الذهاب إلى الحج قبل توليه العرش عندما كان حاكما لأماسية، غير أن الصدر الأعظم، أى رئيس الوزراء فى الدولة العثمانية، بعث إليه برسالة موقّعة منه ومن رجال الدولة البارزين الآخرين، نصحوه فيها بالجلوس على العرش من دون تأخير، وترك أداء فريضة الحج للجمهور وأولئك الذين لا يشاركون فى إدارة الدولة، حتى لا يتسبب بقاء سدة حكم من دون سلطان بتشجيع العدو على مهاجمة الدولة العثمانية. ويبدو أن ثمة التباسا حول ما إذا كان بايزيد استجاب للرسالة مباشرة أم لا.
وتكرر الأمر عينه مع السلطان عثمان الثانى، وهو السلطان السادس عشر للدولة العثمانية، الذى تولى عرش الدولة العثمانية عندما كان فى الرابعة عشرة، وامتد حكمه لأربع سنوات فقط من 1618 إلى 1622. أصرّ عثمان الثانى على أداء فريضة الحج، لكن شيخ الإسلام، المنصب الدينى الأرفع فى الدولة العثمانية، أسعد أفندى آنذاك، الذى كان أيضا والد زوجة عثمان الثانى، حاول إثناءه عن قراره هذا، فأصدر فتوى جاء فيها أن الحج ليس فرضا على السلاطين، بل الأولوية هى أن يجلسوا على سدة الحكم ويقيموا العدل بدلا من أن يعطوا فرصة للفتنة بغيابهم عن إدارة شئون الدولة. وقد أيّدت هذا الموقف شخصية صوفية بارزة هى عزيز محمود هدائى، الذى حذّر عثمان الثانى بجدية حتى يلتزم بهذه الفتوى. إلا أن السلطان أصرّ على قراره، فرفض جنود السلطان خروجه للحج، وشعروا أنه يتخذ الحج ذريعةً لإعادة بناء جيش جديد ليعود به ويقضى عليهم، فانقلبوا عليه وأنهوا حياته.
• • •
تخلّف عدد من الحكام المسلمين عن أداء فريضة الحج، وقد كان لكل منهم أسباب وجيهة، سواء تعلق الأمر بمشقّة الطريق وأخطاره، كما هو حال حكام الدولة الأموية فى المغرب، أم بالانشغال بصدّ هجمات الصليبيين، كما هو حال الدولة الأيوبية. أما فى ما يتعلق بالدولة العثمانية، فقد كان السبب هو الحفاظ على الدولة ودرء الفتن، وظلت قصة السلطان عثمان الثانى حجة تاريخية على ما قد يحمله قرار الذهاب إلى الحج من تبعات على الدولة واستقرارها.
لا يزال الجدل حول عدم قيام سلاطين الدولة العثمانية بأداء فريضة الحج مثارا بين المعجبين بالدولة العثمانية ومنتقديها. فيحاول منتقدو الدولة العثمانية الاستناد إلى هذه الواقعة التاريخية للتشكيك فى مدى التزام حكام الدولة العثمانية بتعاليم الإسلام، فيما يردّ المدافعون على هذا الادعاء باستدعائهم الوقائع التاريخية التى أبدى فيها السلاطين العثمانيون رغبتهم فى الحج، وكذلك ما قاموا به من عنايةٍ بالأماكن المقدسة وطريق الحج.
بيد أن عدم أداء سلاطين الدولة العثمانية فريضة الحج، والتأصيل الشرعى الذى قدمه شيوخ الدولة العثمانية، كشيخ الإسلام أسعد أفندى، يشيران إلى أمر أكثر عمقا فى العلاقة بين الدين والدولة فى الدولة العثمانية، وبعدها فى الجمهورية التركية، وهو أن الدولة وما يرتبط بها من أمور الحكم دائما ما كانت تسبق الدين بخطوة. عبّر عن هذا الأمر أستاذ علم الاجتماع التركى شريف ماردين بقوله إن الدولة فى تركيا تسبق الدين بمليمتر واحد. ويرى ماردين أن الفصل بين الدين والدولة فى تركيا لم يولد من حركة مصطفى كمال أتاتورك بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، بل إن هذه العلمانية بدأت مع الدولة العثمانية نفسها. فالعلمانية فى التجربة التركية لا تعنى تبنّى موقف عدائى تجاه الدين، بل تقوم على مبدأ أن الدولة، بحكم التجربة التاريخية للدولة العثمانية، تسبق الدين بـ«مليمتر واحد» وفقا لتعبير ماردين. فلهذا السبب وجد علماء الدين العثمانيون، حتى قبل السلاطين أنفسهم، أن حماية الدولة مُقدَّمةٌ على القيام بشعائر الحج، وللسبب نفسه التفّ الأتراك حول كمال أتاتورك الذى قاد حرب الاستقلال للحفاظ على الدولة التركية، وقبلوا بإجراءاته العلمانية التى تلت إعلان الجمهورية من أجل الحفاظ على الدولة، حتى ولو كان الثمن إلغاء الخلافة الإسلامية نفسها. وقد عبّر عن هذا التوازن عينه أحد الرموز الدينية التركية مؤخّرا بقوله: عندما تكون الدولة التركية تحت التهديد، لا مجال للحديث عن الدعوة إلى تطبيق الإسلام، فعلينا جميعا أن نتّحد للحفاظ على الدولة، أما فى مراحل الاستقرار، فإننا نستطيع أن ندعو بحرية إلى تطبيق القيم الإسلامية.
أستاذ مساعد بالجامعة الأوروبية بفلورنسا