رحلة إلى حيدر أباد ومنها إلى جوجل
هاني شكر الله
آخر تحديث:
السبت 19 ديسمبر 2009 - 11:54 ص
بتوقيت القاهرة
قضيت خمسة أيام فى مدينة حيدر أباد الهندية، شاءت الظروف أن اضطررت خلالها أن أجوب شوارع المدينة جيئة وذهابا مرتين يوميا على الأقل، وكان من أكثر ما استوقفنى خلال الرحلة الطويلة من الفندق إلى مقر المؤتمرات بالمدينة وبالعكس إننى لم أصادف سيارة مرسيدس أو بى إم واحدة طوال مدة إقامتى.
المرسيدس وتكنولوجيا المعلومات
حيدر أباد تعد ثانى أهم مركز لتكنولوجيا المعلومات فى الهند، وهى التى باتت توصف بأنها «محرك» صناعة تكنولوجيا المعلومات فى العالم، وبخاصة فى مجال البرمجيات «SOFT WARE»، حيث بلغ المعدل السنوى لنمو خدمات البرمجيات الهندية خلال العقد الماضى 28%، وبلغت قيمتها 34 مليار دولار عام 2008. كنت إذن فى زيارة لواحدة من أكثر المدن الهندية ازدهارا فى لحظة من الزمن تودع فيها الهند العالم الثالث وتستعد لدخول نادى الدول الصناعية المتقدمة، وهو ما دعا الكاتب الصحفى والمؤلف الأمريكى الشهير توماس فريدمان للاحتفاء الصاخب بالتجربة الهندية فى كتابه الصادر عام 2005 بعنوان «العالم مسطح».
لا أدعى بطبيعة الحال أن حيدر أباد خالية تماما من المرسيدس والـ«بى ام» وغيرهما من أصناف السيارات المليونية، بل وصادفت إعلانا على صفحة كاملة لسيارات مرسيدس فى الجريدة الهندية التى كنت أقرأها كل صباح، وهو ما أكد لدى أن هناك سوقا ما للسيارة الألمانية ذائعة الصيت. ولكن لم يسعنى وزملاء من العرب المشاركين فى مؤتمر الرابطة العالمية للصحافة والذى انعقد فى حيدر أباد منذ أكثر من أسبوع غير أن نلحظ الندرة البالغة للسيارات مرتفعة الثمن، فى شوارع طغت عليها ــ فى جنون مرورى مخيف ــ الدراجات النارية «الموتوسيكلات» والدراجات الهوائية «التوك توك» المحتقر عندنا احتقارا بالغا، أما السيارات فكانت الغلبة الساحقة فيها لسيارات هندية الصنع صغيرة ومتوسطة الحجم.
ولم يكن هناك مفر من أن نتساءل نحن الصحفيين العرب المشاركين فى المؤتمر فيما لو كانت هناك علاقة سببية بين ندرة السيارات الفارهة، باهظة الثمن فى شوارع مدينة هى من أكثر مدن الهند نجاحا اقتصاديا (حيدر أباد هى أيضا من أهم مراكز صناعة السينما فى الهند، أكبر صناعة سينما فى العالم)، وفى بلد من أكثر بلدان العالم نجاحا اقتصاديا (رغم الأزمة العالمية فوجئ الجميع، بمن فيهم المسئولون الهنود أنفسهم، بأن الهند حققت معدلا للنمو خلال الربع الأخير بلغ 7.9% وكانت التوقعات الرسمية الهندية تدور حول الخمسة فى المائة، أما صندوق النقد الدولى فتوقع 4.1%، ومن المتوقع أن يبلغ معدل النمو لكامل لعام 2009 ــ عام الأزمة ــ حوالى 7%).
وكان طبيعيا أن نتساءل أيضا فيما لو كان العكس صحيحا، أى أن ثمة علاقة سببية بين كثرة السيارات الفاخرة فى شوارعنا العربية وبين كون هذه المدن من أكثر مدن العالم خيبة، فى بلدان هى من أكثر بلدان العالم فشلا، وأن نتأمل بالتالى فى ثقافة «الفشخرة» الكاذبة والقيم النفطية والأخلاق البترودولارية والولع بالشكل على حساب المضمون، وبالزهو الفارغ تعويضا عن بذل الجهد.
ليس هذا المقال مع ذلك عن الهند، ولكن عن الصحافة وعن ما أتاحه لى مؤتمر الصحافة العالمية فى حيدر أباد من اطلاع على نقاش شديد الحدة وبالغ الثراء حول مستقبل الصحافة الغائم وحاضرها المأزوم، وعلى تجارب بالغة التنوع وشديدة الإثارة فى محاولات تجاوز الأزمة والتفتح على عالم صحفى بات الجميع مدركين أنه سيكون بالغ الجدة، شديد الاختلاف.
وبالمناسبة، الصحافة الهندية ليست فى أزمة، فسوقها هائلة الحجم، تبلغ فى الوقت الحالى حوالى 100 مليون نسخة جريدة يوميا، وهى على غير الحال فى أكثر بلدان العالم متواصل الاتساع حيث تتراجع الأمية فى الهند بصورة مضطردة، فيما تتمتع البلاد ــ التى توصف عن حق بأنها أكبر ديمقراطية فى العالم ــ بحياة سياسية تفيض حيوية ونشاطا، وبمستوى للمشاركة السياسية يفوق فى كثير من الأحيان ديمقراطيات الغرب (فشارك فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة فى مايو من العام الجارى أكثر من أربعمائة مليون مواطن، بنسبة 60% من الناخبين).
وكان من الطبيعى أيضا أن نتساءل نحن المشاركين المصريين عن التفاوت الشديد فى نسبة قراء الصحف إلى عدد السكان فى الهند مقارنة بها فى بلدنا. ناشرو الصحف فى الهند يشكون من نسبة توزيع تبلغ حوالى 10% من عدد السكان (1.15 مليار)، بينما تبلغ هذه النسبة حوالى الواحد والربع عندنا حيث لا يتجاوز مجموع ما توزعه الجرائد والمجلات المصرية المليون نسخة فى اليوم، أى أن توزيع الصحف فى الهند يفوقه فى مصر بما يقرب من عشرة أضعاف. هل يا ترى ثمة علاقة بين عدد قراء الصحف وحالة الممارسة الديمقراطية فى بلد ما؟
جريدة فى مقهى
ولكن دعنا نضع الهند جانبا الآن لنلقى نظرة على بعض مما يحدث على وسع ساحة الصحافة العالمية هذه الأيام. خذ مثلا تجربة «المحلية المفرطة» (أو ما يسمى بال hyper local) فى جمهورية التشيك. شبكة من الجرائد شديدة المحلية تخدم أحياء صغيرة، وتدعمها غرفة أخبار مركزية على أحدث طراز تكنولوجى. مقار الجرائد المحلية (والمزمع أن يصل عددها إلى 200 جريدة فى أنحاء التشيك) عبارة عن مقاهٍ تشبه إلى حد بعيد شبكات المقاهى الحديثة التى ظهرت فى مصر فى السنوات الأخيرة وانتشرت انتشارا بعيد المدى، غير أن هذه المقاهى/ الصحف تحوى كل منها غرفة تحرير مفتوحة، يوجد بها رئيس التحرير ومعه عدد محدود من المحررين، يقومون بتحرير الجريدة أمام مرتادى المقهى، وبالتفاعل المتواصل مع الجمهور المحلى الذى يقدم ما يقرب من 50% من المادة الصحفية المنشورة بالجريدة، بما يتضمن تدريبا على المهارات الصحفية للكبار والصغار على حد سواء.
ومنذ أن بدأت التجربة فى 7 مواقع استطلاعية تحولت مقار الجرائد إلى نوع من المراكز الثقافية المحلية، تشهد ندوات ولقاءات ثقافية وأدبية كما تشهد حفلات موسيقية وراقصة. لاحظ المشاركون أن من بين الآثار المهمة لهذه التجربة جذب قطاع الشباب، وهو القطاع الذى يتجه فى العالم بأسره للابتعاد عن الصحافة المطبوعة وربما عن الصحافة بكل أشكالها، لا كقراء فحسب ولكن أيضا كمنتجين للمادة الصحفية، وكمراقبين متحمسين للأداء الصحفى لجريدتهم المحلية وكمحاسبين للقائمين عليها.
صحيفة على المقاس
خذ أيضا تجربة ألمانية لم يمض على إطلاقها بضعة أسابيع، عرضتها لنا فتاة فى العشرينيات من عمرها: تلك هى تجربة «الجريدة الشخصية». الفكرة الأساسية وراء التجربة هى أن القارئ فى عصر الانترنت يصر على تملك الحق فى اختيار ما تقدمه له جريدته. لا تقدم «الجريدة الشخصية» مادة صحفية تنتجها هى نفسها، ولكن «قائمة» من الموضوعات ومجالات الاهتمام والأبواب وكتاب الرأى من كبرى الصحف الألمانية فضلا عن جريدتين عالميتين باللغة الإنجليزية. يقوم القارئ بواسطة الإنترنت بانتقاء ما يرغب فيه من بين هذه القائمة، ويحدد مكانها فى صفحات الجريدة، التى يقوم أيضا بتصميم صفحاتها مستخدما برنامجا الكترونيا مخصصا لذلك، و«يشخصنها» كما يشاء، كأن يصوغ شعارا للجريدة، وأن يجعلها تخاطبه باسمه (فتشمل الترويسة على عبارة «صباح الخير يا فلان» على سبيل المثال.
الجريدة من ثمانى صفحات تشمل صفحتين إعلانيتين، والإعلانات هنا أيضا «مشخصنة». فالإنترنت، بما توفره من تفاعلية تشمل «بروفيل» القارئ، قد أنشأت ظاهرة الإعلانات الموجهة، حيث يتوجه المنتج لسلعة أو خدمة ما بإعلاناته لأصناف بعينها من المستهلكين المحتملين يرجح من خلال التعرف على بروفيلاتهم قابليتهم للاهتمام بشراء ما يقدمه من سلع أو خدمات. وعلى هذا تشتمل كل نسخة من «الجريدة الشخصية» على مجموعة خاصة من المواد الإعلانية متوافقة مع طبيعة كل قارئ كما يدل عليها البروفيل الخاص به وبأسرته. تطبع الجريدة نسخة فى مطبعة على أحدث الطرز التكنولوجية، وتصل المشترك صباح كل يوم على عنوانه.
الطريف فى هذه التجربة أنها تسير فى الاتجاه المعاكس إذا جاز التعبير. فقد تمثل التحول الأساسى الذى شهدته الأعوام الماضية فى اتجاه الصحافة المطبوعة لتطويع نفسها لتتمكن من تحقيق وجود قوى على الانترنت، أما التجربة التى نحن بصددها (وأغلب ظنى إنها تنتمى إلى عالم الطرائف أكثر منها فتح لموجة جديدة فى عالم الصحافة المطبوعة) فتنطلق من انتصار «منطق الانترنت»، أو ما يسمى بالصحافة المقودة من المستهلك (consumer-led journalism) لتسعى لتطبيقه على الصحافة المطبوعة.
أخبار موبايل
لست مقتنعا بأن كل تقدم تكنولوجى أو غير تكنولوجى، هو بالضرورة للأفضل. وأخشى أن يكون الجوهرى فى نموذج الصحافة «المقودة من المستهلك» ليس هو دمقرطة محتوى المادة الصحفية، وإنما فيما قد ينطوى عليه ذلك التحول الضمنى لمتلقى الخدمة الصحفية من «قارئ» إلى «مستهلك» من تأكيد وتكريس لجانب الإشباع السريع والإلهاء والتسلية على حساب الرسالة الجوهرية الأسمى للصحافة فى الكشف عن الحقيقة وتقديم المعرفة.
إعطاء اليد الطولى فى تحديد طبيعة وأولويات الخدمة الصحفية لمتلقيها وليس لمنتجيها يبدو لأول وهلة تطورا ديمقراطيا فى ميدان العمل الصحفى، وقد تثبت الأيام أنه كان كذلك بالفعل. ولكن مشكلة الحقيقة أنها دائما قيد الاكتشاف، وأنها كثيرا ما تكون غير مستساغة، بل وصادمة، والمعارف الجديدة تأتى عادة كنتيجة غير متوقعة للبحث فى أمور مألوفة ومتوقعة. ألا تعنى قيادة «المستهلك» للخدمة الصحفية لما يتلقاه من محتوى أن يبقى محصورا ومحاصرا بما هو مألوف ومتوقع، وبالضرورة ما هو مستساغ من قبله؟
خطر تحويل المادة الصحفية إلى شذرات إخبارية، وتسالى وتلهية يبدو كامنا أيضا فى التطور التكنولوجى الأحدث فى ميدان توصيل الخدمة الصحفية: الموبايل. تنبأ الخبراء فى حيدر أباد بأن الموبايل سيكون هو الوسيلة الرئيسية لتوصيل الخدمة الصحفية خلال خمس سنوات أو أكثر قليلا. خلال العامين القادمين ستمتلك الأغلبية الساحقة من الأمريكيين موبايلات مؤهلة لخدمة الانترنت، وفقا لما قاله أحد المتحدثين، واستطرد موضحا أن صحافة المستقبل ستصل إلى المتلقى من خلال جهاز الموبايل الخاص به، وهو الذى سيحدد بالضبط نوع المادة الصحفية التى يرغب فى تلقيها، ومع المادة الصحفية المفصلة خصيصا على مقاسه، سيتلقى أيضا مادة إعلانية هى الأخرى موجهة له مباشرة ومفصلة تماما على مقاسه.
ماذا نحن فاعلون بجوجل؟
ويبقى التحدى الأكبر هو ما لخصته الجلسة الأخيرة للمؤتمر بعنوان: ماذا نحن فاعلون بجوجل؟ الصحافة المطبوعة تحقق خسائر كبيرة فى معظم بلدان العالم، وبالذات فى الدول المتقدمة. فقد شهد الدخل الإعلانى للصحف هبوطا فادحا خلال السنوات الخمس الأخيرة، حيث توجه المعلنون نحو الشبكة العنكبوتية العالمية، ولكنهم لم يتوجهوا إلى المواقع الالكترونية للصحف ولكن إلى «العناكب»، أى إلى أجهزة البحث التى تجوب أنحاء الشبكة لتقدم للقارئ أو المشاهد أو المستهلك، سمه ما شئت، ما يريده بالضبط، وغنى عن الذكر أن أشهر هذه العناكب وأكثرها نجاحا هو جوجل. كبرى صحف العالم، النيويورك تايمز، تتوقع على سبيل المثال، هبوطا جديدا فى دخلها الإعلانى خلال الربع الأخير لهذا العام (مقارنة بالربع الأخير من العام الماضى) بنسبة 25%، أى ما يقدر بحوالى 97 مليون دولار. وقد اضطرت الجريدة الكبرى تحت ضغط الهبوط المتواصل فى دخلها الإعلانى إلى تخفيض نفقاتها خلال العام الحالى بمقدار 475 مليون دولار، وتخلت عن 20% من العاملين مقارنة بالعام الماضى، وتنوى أن تتخلى عن حوالى 200 محرر صحفى خلال الشهور المقبلة.
وبينما تعانى النيويورك تايمز كل هذه المعاناة حققت جوجل خلال العام الماضى ــ ودون أن تنتج خبرا صحفيا واحدا ــ دخلا 21.8 بليون دولار، وربحا يفوق 1.5 بليون دولار، وقد وصلت قيمة رأسمال الشركة إلى 180 بليون دولار. ليس مستغربا إذن أن يصب ناشرو الصحف والعاملون فيها جم غضبهم على جوجل، ومن بين أبرز هؤلاء روبرت مردوخ، صاحب «نيوز كوربوريشن»، أحد أكبر الإمبراطوريات الإعلامية فى العالم، تشمل قناة فوكس الإخبارية وجرائد الوول ستريت جورنال والصن والتايمز والصنداى تايمز. فقد وصف ميردوخ جوجل بأنها «مصاص دماء رقمى»، يمتص دماء الصحافة فى العالم. وبوجه عام، يتفق أكثر ناشرى الصحف على أن جوجل تنتهك بشكل أو آخر حقوق الملكية الأدبية،
جوجل ترد بأنها على العكس من ذلك تقدم للصحف خدمة كبرى، حيث ترسلهم حوالى بليون نقرة فى الشهر عبر جوجل نيوز، فضلا عن 3 بلايين نقرة أخرى تصلهم عبر بحث جوجل، وغيرها من أدوات البحث. وتنفى جوجل عن نفسها تهمة انتهاك حقوق الملكية الفكرية أو والأدبية، فهى لا تفعل أكثر من أن تقدم للقارئ عنوان الموضوع الصحفى ونبذة قصيرة جدا عنه، وليست مشكلتها أن المعلنين يفضلون أن تقترن إعلاناتهم بصفحة البحث أو القائمة الخبرية فى مجال معين بدلا من أن يوجهونها للمواقع الالكترونية للصحف، وتلك مازالت لا تقدم للصحف غير أقل القليل من الدخل الإعلانى الهائل الموجه للشبكة الالكترونية العالمية.
ناشرو الصحف بدورهم يقولون إن جوجل تحصل على دخلها الإعلانى الهائل بفضل المادة الصحفية التى ينتجونها هم، وأن من حقهم أن يحصلوا على نصيب عادل من ذلك الدخل.
وبصرف النظر عن حجج الطرفين، وبصرف النظر عن ما يحمله المستقبل فيما يتعلق بوسائط توصيل المادة الصحفية، وبصرف النظر حتى عما إذا كان مقدرا للصحف الورقية أن تنقرض تماما، فإن القضية الحقيقة، والخطر الحقيقى هو تدهور نوع الخدمة الصحفية نفسها، أن تتخلى الصحافة عن رسالتها الأسمى، وعن دورها الحيوى فى تشكيل مجتمع ومواطن يمتلك قدرا معقولا من الوعى بذاته وبمحيطه وبعالمه، ومن المعرفة والاستنارة التى تؤهله لأن يقرر مصيره بنفسه. تراجع إمكانات المؤسسات الصحفية لصالح «عناكب الشبكة» أسفر بالفعل عن تراجع فادح فى قدرة هذه المؤسسات فى الإنفاق على أهم الفنون الصحفية وأكثرها ثراء وفائدة، الصحافة الاستقصائية، والتغطية الموسعة والمعمقة فى الميدان، والتغطية الخارجية بما فيها التراجع الكبير فى استعداد الصحف للإنفاق على مراسلين خارجيين، أو على إرسال بعثات صحفية إلى مواقع الأحداث.
أخشى ما أخشاه ليس أن يصبح الموبايل هو الوسيط الرئيسى لتوصيل الخدمة الصحفية لمتلقيها، وليس أيضا أن تفقد البشرية ما اعتبره متعة لا تعوضها أداة الكترونية مهما بلغت من ذكاء وامتلكت من إمكانات تفاعلية ومتعددة الوسائط، وهو متعة تصفح جريدة ورقية. أخشى ما أخشاه هو أن يصبح أهم ما يحصل عليه «مستهلك» الخدمة الصحفية هو آخر أخبار العلاقات العاطفية لبريتنى سبيرز، وغيرها من نجوم الموسيقى أو السينما أو الرياضة أو المجتمع، وأن يكون أبرز ما نعرف عن أداء السياسيين هو فضائحهم الجنسية، وجل ما نعرف عن الحروب والصراعات هو بيان ساعة بساعة بأعداد القتلى والجرحى.
لست من المؤمنين بأن التقدم، والتقدم التكنولوجى خاصة، يحمل دائما ما هو أفضل.
ولكن وفى الوقت نفسه لست من هواة البكاء على الأطلال والترحم على الماضى. ثمة مفارقة لا تخلو من طرافة فى أن يصرخ روبرت ميردوخ محذرا من آثار الشبكة العنكبوتية على رسالة الصحافة، وكان ومازال من أبرز من حملوا معاول هدم تلك الرسالة بدءا من استراليا وحتى أقاصى الغرب الأمريكى. المسألة فى نهاية الأمر تخضع للبشر ولاختياراتهم. الصحافة الجادة ستبقى ــ أيا ما كانت أداة توصيلها ــ طالما أصر الناس على حاجتهم لها.