ماذا حدث لقانون الجمعيات الأهلية الذى أقره مجلس النواب يوم ٢٩ نوفمبر وأرسله إلى رئاسة الجمهورية تمهيدا لإصداره؟ ولماذا لم نسمع عنه شيئا طوال الأسابيع الثلاثة الماضية؟ لا أظن أن يكون السبب مجرد بطء الإجراءات الإدارية، بل أتصور وأتمنى أن يكون وراء ذلك احتمال قيام السيد رئيس الجمهورية باستخدام صلاحيته الدستورية من أجل رده إلى البرلمان لإعادة مناقشته مرة أخرى.
وفى هذه الحالة فقد تكون هناك فرصة لإنقاذ البلد من هذا القانون شديد السوء، ليس فقط لما تضمنه من أحكام مقيدة للمجتمع المدنى على نحو ما علقت سابقا وعلق كثيرون غيرى، ولكن أيضا للملابسات والظروف التى أحاطت بصدوره والتى عبرت عن اضطراب فى آليات صنع القرار والتشريع.
أول مظاهر هذا الاضطرب هو عدم الإفصاح عن الغرض الحقيقى من القانون. فبينما أعلن المدافعون عنه، من داخل البرلمان ومن خارجه، أنه يهدف إلى حماية الأمن القومى وإحكام الرقابة على التمويل الأجنبى، إلا أن الحقيقة أن القرارات والقوانين الصادرة خلال الأعوام الثلاثة الماضية أغلقت الباب نهائيا أمام الحصول على تمويل من الخارج دون موافقة وزارة التضامن الاجتماعى والجهات الأمنية. بل إن القانون رقم ١٢٨ لسنة ٢٠١٤ جعل من قبول أى تمويل أو دعم من جهة أجنبية دون موافقة مسبقة جريمة تصل عقوبتها إلى الأشغال الشاقة المؤبدة للمواطن العادى والإعدام للموظف العام. هدف قانون الجمعيات الجديد إذن ليس حماية البلد من التدخل الأجنبى بل وضع المجتمع المدنى تحت السيطرة الكاملة للدولة، بما فى ذلك آلاف الجمعيات التى لا تتلقى تمويلا أجنبيا ولا علاقة لها بأية جهة فى الخارج، وتهديد العاملين فيها، وضمان انصياعهم للتعليمات على نحو يتعارض مع طبيعة النشاط الأهلى والهدف منه.
من جهة أخرى فإن غموضا مماثلا أحاط بجهة اعداد القانون. رسميا فإن الذين تقدموا به مائة وثمانون عضوا بمجلس النواب. وهذا فى حد ذاته ليس غريبا ولا مستهجنا بل جزء من عملهم النيابى. ولكن الغريب أن يتم تجاهل الحكومة بما فيها وزارة التضامن الاجتماعى ولا يجرى إشراكها فى مناقشة القانون الجديد برغم انشغالها فى الأشهر السابقة بإعداد ومناقشة قانون أكثر توازنا مع الجمعيات الأهلية. وهذا يؤكد أن الدفع بالقانون الجديد عن طريق مجلس النواب، وبهذا الشكل المباغت، كان بغرض وأد الحوار الحالى بين الوزارة والمجتمع المدنى ومنع صدور قانون أكثر اعتدالا، كما يؤكد أن فى الدولة جهات قادرة على تجاهل الحكومة والدفع بتشريعات تهمها من خلال البرلمان.
وأخيرا فإن ذات الاضطراب فى صنع القرار قد بدا واضحا فى تجاهل التأثير السلبى للقانون الجديد على المجتمع برغم الأزمة الاقتصادية التى يمر بها البلد والمعاناة الشديدة للمواطنين من البطالة وزيادة الأسعار وضعف الخدمات العامة. وقد كان ملفتا للنظر فى الأيام التالية على الإعلان عن القانون أن يتصدى لانتقاده والتحذير منه منظمات وجمعيات مستقرة وراسخة المكانة لدى الدولة وواسعة التأثير فى مختلف المجالات الخيرية والإنسانية، والتى أعلنت عن استيائها من القيود غير المسبوقة التى تضمنها القانون، والتجاهل التام لعواقبه الاقتصادية والاجتماعية، والخطورة التى يمثلها على استقرار البلد.
هناك إذن بالتأكيد ما يبرر استخدام السيد رئيس الجمهورية لصلاحيته الدستورية فى رد القانون للبرلمان وطلب مناقشته من جديد والعدول عن مثالبه الصارخة. ولكن إن كان هذا صحيحا فمن الضرورى ألا يكتفى مجلس النواب بمجرد الإجراء الشكلى ويدخل تعديلات طفيفة هنا وهناك دون التطرق لعيوب القانون الرئيسية، بل يجب فتح الباب لتمويل الجمعيات الأهلية من المصريين دون قيود أو عوائق وتسهيل نشاطها، ويجب أن يكون الحصول على تمويل أجنبى خاضعا للرقابة ولكن فى إطار إجراءات شفافة وواضحة ومحددة الشروط والتوقيتات، وأن يتم العدول عن إنشاء مجالس عليا تتعدى على اختصاص وزارة التضامن الاجتماعى، وأن يجرى تخفيف القيود الإدارية التى تحرم المجتمع من نشاط وخدمات النشاط الأهلى، ويتم إلغاء العقوبات السالبة للحرية الواردة بالقانون لمجرد ارتكاب مخالفات إدارية.
إعادة النظر فى القانون بشكل جدى ليس تعبيرا عن ضعف الدولة ولا ترددها، بل عن الاستعداد للإنصات ومراعاة المصالح الاقتصادية والاجتماعية والقانونية للمجتمع، هو المخرج الوحيد من الورطة التى تسببت فيها الجهات التى أصرت على إصدار القانون دون تشاور ولا تروى، مدفوعة فقط بالتوجس من أى نشاط وليد المجتمع، وغافلة عما يقدمه العمل الأهلى من دعم ومساندة لقطاعات واسعة من الشعب المصرى لا يصلها ولا يكفيها دعم الدولة وأجهزتها الرسمية.
فهل ننتهز الفرصة ونصحح خطا لا داعٍ له؟