العلوم الإنسانية والتكنولوجيا
محمد زهران
آخر تحديث:
السبت 19 ديسمبر 2020 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
تكلمنا في الكثير من المقالات السابقة كما تكلم غيرنا عن الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتولدة منه والتأثير الكبير له على جميع مناحي الحياة خاصة العلمية منها. اليوم نتكلم عن العلوم الإنسانية وكيف تأثرت وتتأثر بالتكنولوجيا خاصة الذكاء الاصطناعي. هذا موضوع قد بدأ النقاش فيه على استحياء ثم زادت الأفكار والتساؤلات مع زيادة تأثير الذكاء الاصطناعي، هل يكون للذكاء الاصطناعي تأثيراً كبيراً على العلوم الإنسانية مثل الآداب والفلسفة وعلم النفس والتاريخ إلخ؟ وهل هذا التأثير متبادل؟ هذا ما سنتحدث عنه اليوم.
العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والانسانيات قد لا تكون واضحة للوهلة الأولى لأن الأغلب الأعم من العلوم الإنسانية لا يعتمد على الصرامة العلمية والرياضية الموجودة في العلوم التطبيقية لكن يعتمد على وضع فرضيات ومحاولة اختبارها عن طريق التحليل أو الاستبيانات وما شابه، فكيف يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة هنا؟
الخطوة الأولى هي الرقمنة وهي تحويل النصوص الأدبية مثلاً إلى شكل رقمي يسهل للكمبيوتر التعامل معه وقد حدثت هذه الخطوة منذ زمن لذلك نجد كل المحتوى الفني والأدبي إلخ موجوداً على شبكة الانترنت وفي أغلب المكتبات والمتاجر الإلكترونية.
الرقمنة هي الخطوة الأولى التي تضعنا في أحضان الذكاء الاصطناعي وهنا يصبح الأمر أكثر إثارة.
معالجة اللغات الطبيعية أي اللغات التي نتكلم بها ونكتبها (Natural Language Processing) تعتبر من المحاولات المبكرة للذكاء الاصطناعي للتعامل مع النصوص الأدبية وقد تقدمت بخطوات عملاقة ومازالت وساعدها على ذلك التقدم الكبير في آليات الذكاء الاصطناعي والسرعات الكبيرة لأجهزة الكمبيوتر. الآن بإمكان الكمبيوتر التعرف على أسلوب الكتابة ومنه قد يتعرف على الكاتب وهذا يساعد على دراسة المخطوطات وأيضاً اكتشاف السرقات الأدبية. قدرة الكمبيوتر على تحليل الملايين من النصوص يساعد على اكتشاف البعد الثقافي لدولة ما أو العلاقة ما بين النصوص وبعضها، مثلاً بتحليل الكثير من الروايات تمكن الكمبيوتر من اكتشاف أن أغلب الروايات تعتمد على عدد قليل من الحبكات ودمجها.
تحليل اللغات بالإضافة إلى معلومات أخرى جعل الذكاء الاصطناعي يدخل مجالات لم نكن نتصورها منذ سنوات قليلة مثل القانون حيث يحلل القضايا لاكتشاف الثغرات مثلاً لكن مازال هذا الأمر في طور التجربة.
نفس هذه التكنولوجيا تستخدم في علم النفس لتحليل الشخصية والاستفادة من الكم الهائل من التحليلات السابقة لملايين الأشخاص للوصول إلى تحليل أكثر دقة ويستخدم هذا التحليل في أشياء كثيرة بعضها شرير.
الذكاء الاصطناعي يمكنه الاستفادة من دروس الماضي التاريخية ووضع سيناريوهات للمستقبل أو وضع تفسيرات لأحداث تاريخية قد حدثت أو محاولة استنتاج معلومة تاريخية ناقصة.
الآن برمجيات الذكاء الاصطناعي بإمكانها تأليف مقطوعات موسيقية (لكن لا يمكنها تلحين قصيدة شعرية بعد) ويمكنها رسم بعض اللوحات الفنية وبالتالي يمكنها تحليل الموسيقى والفنون وهذا يساعد على تقدم تلك المجالات وسيرها في طرق كانت غير مطروقة من قبل.
الحديث يطول عن استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في العلوم الإنسانية لكن أردنا فقط إعطاء بعض الأمثلة عن هذا الجانب الذي لا نتحدث عنه كثيراً في وطننا العربي.
هذا عن تأثير الذكاء الاصطناعي على العلوم الإنسانية، فماذا عن العكس؟
العلماء والمهندسون يعملون دائماً في المشروع أو المشكلة البحثية المسندة إليهم وأمامهم غالباً هدف واحد: حلها بأفضل وسيلة ممكنة. لكن هذا لا يكفي إذا نظرنا نظرة أكثر شمولية وهو تأثير هذا الحل على العالم ككل. أفضل مثال على ذلك هو استخدام الطاقة النووية. فقد قام العلماء بعملهم بأفضل ما يكون في كشف أسرار الذرة وتوظيفها لكن لم يكن في الحسبان كل هذا الدمار والخراب والحروب العلنية والمستترة المتعلقة بهذا الموضوع، وهنا يأتي دور العلوم الإنسانية لضبط بوصلة العلم نحو رقي وتقدم الإنسانية.
نحتاج العلوم الإنسانية لدراسة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي والوضع القانوني لو حدث خطأ ما أثناء القيادة الذاتية لسيارة أو أثناء عملية جراحية مثلاً. نحتاج للعلوم الإنسانية لتصميم برمجيات ذكاء اصطناعي لا توصف بالعنصرية حين يتم استخدامها في الشركات لاتخاذ قرارات التعيين والترقية والمرتبات وانهاء الخدمة إلخ. ما هو تأثير تكنولوجيا جديدة على نفسية الناس؟ هذا أيضاً تأثير إيجابي للعلوم الإنسانية على العلوم التكنولوجية وقد نُشرت أبحاث عدة عن تأثير ألعاب الكمبيوتر مثلاً على نفسية المراهقين، وألعاب الكمبيوتر في أيامنا هذه تعتمد كثيراً على الذكاء الاصطناعي.
المنفعة متبادلة بين التكنولوجيا عامة والذكاء الاصطناعي خاصة وبين العلوم الإنسانية.
لنأمل أن نرى تعاون مثمر بين الكليات الأدبية وكليات الهندسة والحاسبات عندنا في مصر فهذا يفيد الجانبين ودائماً الأبحاث العلمية التي تقع بين تخصصات متباينة تكون مثيرة وتدفع بالمعرفة الإنسانية نحو آفاق جديدة.