نشر موقع 180 مقالا للكاتب سميح صعب، ذكر فيه الأسباب التى دفعت اليابان ــ بتشجيع من واشنطن ــ إلى تغيير عقيدتها الدفاعية. هذا التغيير سيضع حجر الأساس لوجود هيكل أمنى آسيوى مماثل للناتو الأوروبى. سخر الكاتب من مفارقات القدر، فبعد أن كانت اليابان تعتمد على أمريكا فى الدفاع عنها، أصبحت واشنطن الآن بحاجة إلى اليابان لوقف نفوذ الصين... نعرض من المقال ما يلى:إن عسكرة اليابان العضو فى حلف كواد، الذى يضم الهند وأستراليا والولايات المتحدة، من شأنه خلق توازن جيوسياسى فى مقابل الصين، ويرسى أولى اللبنات نحو بروز هيكل أمنى جديد فى آسيا مماثل لحلف شمال الأطلسى فى أوروبا.
أوردت اليابان فى الأسباب الموجبة للتغييرات الجذرية فى عقيدتها الدفاعية ما سمّته (التحدى الاستراتيجى غير المسبوق) الذى باتت تشكله الصين لأمن الأرخبيل اليابانى. ولم تنسَ الإشارة ــ ولو من باب ثانوى ــ إلى التهديدات التى تمثلها كوريا الشمالية وروسيا، وإن عدّتها فى مرتبة ثانية.
اليابان، وبتشجيع من الولايات المتحدة، قررت رفع الإنفاق الدفاعى للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية إلى 2 فى المائة من إجمالى دخلها القومى. وبذلك تتساوى مع موازنات دول حلف شمال الأطلسى.
واليابان، التى ستكون موازنتها الدفاعية هى الثالثة فى العالم بعد الولايات المتحدة والصين (320 مليار دولار بحلول العام 2027)، قررت أيضا التوجه نحو الولايات المتحدة لشراء عدد قد يصل إلى 500 من صواريخ توماهوك الأمريكية العابرة للقارات، إلى جانب صواريخ (إس إم ــ 6) بعيدة المدى. كما أن شركة ميتسوبيشى اليابانية للصناعات الثقيلة تعمل على تطوير صواريخ أرض ــ بحر. ومن باب التذكير فقط، فإن المقاتلات اليابانية التى أغارت على ميناء بيرل هاربور الأمريكى فى ديسمبر 1941، كانت من تصنيع شركة ميتسوبيشى.
هذه العقيدة الدفاعية الجديدة لليابان، لا يمكن فصلها عن مجمل السياسة الأمريكية القائمة على حشد الحلفاء فى مواجهة تنامى النفوذ الصينى فى منطقة المحيطين الهادئ والهندى.
بعد الحرب العالمية الثانية، صبّت اليابان وألمانيا جهودهما على الوضع الاقتصادى واحتلتا المركزين الثانى والثالث بعد الولايات المتحدة اقتصاديا على المستوى العالمى قبل أن تنتزع الصين منهما هذه المكانة. وكان محظورا على الدولتين بعد الهزيمة العسكرية أمام الحلفاء الذهاب بعيدا فى العسكرة. اليابان ليس لديها جيش مثلا، وإنما (قوات للدفاع الذاتى) بموجب الدستور الذى فرضه المحتل الأمريكى. والولايات المتحدة تقيم فيها قواعد عسكرية واسعة حتى اليوم. وجزيرة أوكيناوا بقيت تابعة لفترة أطول للسيطرة الأمريكية. وفى ألمانيا، تقيم أمريكا فيها إلى اليوم، أكثر من 70 قاعدة عسكرية، وهى محتواة من قبل حلف شمال الأطلسى.
وعندما بدأ الهجوم الروسى على أوكرانيا، ألحّ الحلفاء على ألمانيا لإرسال الأسلحة إلى كييف، لكن برلين وجدت أن ثمة القليل فى ترسانتها لترسله، ولم يكن أمام المستشار أولاف شولتس سوى اتخاذ قرار بتحديث الجيش الألمانى وتجهيزه بأحدث الأسلحة، كى يتمكن من مواجهة التحديات الجديدة التى فُرضت على القارة الأوروبية.
وطوكيو، هى الأخرى تعتبر نفسها معرضة للاستفزاز من قبل كوريا الشمالية التى أجرت منذ مطلع العام الحالى 30 تجربة صاروخية مرّ الكثير منها فوق اليابان. وعندما أجرت الصين مناورات عسكرية واسعة النطاق قرب تايوان فى أغسطس الماضى على أثر زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركى نانسى بيلوسى، مرّت خمسة صواريخ باليستية صينية فوق اليابان. وتتنازع الصين واليابان ملكية جزر غير مأهولة فى بحر الصين الشرقى وتعرف باسم (سينكاكو) فى اليابان و (دياوبو) فى الصين. وتدير اليابان هذه الجزر منذ عام 1972.
إن المشاعر القومية فى آسيا وذكريات الحرب العالمية الثانية لا تزال طرية فى الذاكرة، ليس ذاكرة الصين فحسب، بل خذ مثلا تعليق وزارة الخارجية الكورية الجنوبية على قرار تعديل استراتيجية الأمن القومى اليابانى، الذى أكد على أن اليابان يجب أن تحصل على موافقة سيول قبل اتخاذ أى قرار يمكن أن تكون له آثار مدمرة على المصالح القومية لكوريا الجنوبية، مثل ممارسة حقها فى توجيه ضربة مضادة تستهدف شبه الجزيرة الكورية. الكوريون جنوبا وشمالا لم ينسوا بعد ما فعله الاحتلال اليابانى ببلادهم.
ويقول خبراء إن تعاظم النفوذ الصينى والغزو الروسى لأوكرانيا والخوف من تعرض أمن تايوان للخطر، قد حفّز الكثير من الشعب اليابانى على دعم اقتراح زيادة الإنفاق العسكرى وتعزيز القدرات الدفاعية. وبحسب الخبير الدفاعى فى جامعة كيو اليابانية كين جيمبو «فإن أمن تايوان وأمن اليابان لا ينفصلان»، مشيرا إلى أن أقصى جزيرة يوناغونى فى أقصى الأرخبيل اليابانى هى على مسافة 110 كيلومترات فقط من تايوان.
كل الحيثيات التى تحدثت عنها ديباجة العقيدة الدفاعية الجديدة لليابان، لا تنفى السؤال: هل الباعث إلى تعديلات بهذا الحجم تمليه الحاجة الدفاعية، أم الميل إلى نزعة عسكرية عُرفت بها كلٌ من برلين وطوكيو تاريخيا؟
إن ألمانيا واليابان، كانتا تعتمدان بشكل كلى تقريبا على أمريكا للدفاع عنهما. لكن المفارقة الآن، أن أمريكا نفسها فى حاجة إلى قوتين مثل ألمانيا واليابان لتقفا إلى جانبها فى معركة استراتيجية كبرى عنوانها كسب معركة البقاء كقوة مهيمنة على القرن الحادى والعشرين، وعدم الاضطرار إلى القبول بعالم متعدد القطب تسعى إليه روسيا والصين.
إن عودة ألمانيا واليابان إلى بناء جيشيهما ولو بمباركة أمريكية، سيثير الكثير من التساؤلات فى أوروبا وآسيا. ولن يخفف من حدة انبعاث المشاعر القومية وتأججها تغليف أمريكا المعركة بغطاء أخلاقى وتصويرها على أنها معركة بين الخير والشر أو بين الدول الديموقراطية والدول ذات الأنظمة الاستبدادية.
النص الأصلي