الإعلام الجديد.. وتحوّلاته السلبيّة
العالم يفكر
آخر تحديث:
الثلاثاء 19 ديسمبر 2023 - 7:25 م
بتوقيت القاهرة
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب المهدى مستقيم، تناول فيه التأثير السلبى لتقنيات عصر الذكاء الاصطناعى على دور الإعلام، إذ ساعدت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى أصحاب السلطة وبعض السياسيين على تزييف الصورة لإخراج الرواية المراد إيصالها للجماهير لإثارة عواطفهم من أجل مصالح شخصية تتنفى مع مبادئ الإعلام فى البحث عن الحقيقة والتقصى والتحليل... نعرض من المقال ما يلى.
انبجسَ عصرُ ما بعد الحقيقة على إثر تنامى النقد الجذرى، الموجَّه صوب المؤسّسات الوصيّة على إنتاج الحقيقة ونَشْرِها؛ ما أدَّى إلى ذيوع رذائل معرفيّة ماحقة، وخلْقِ رؤىً إيديولوجيّة متطرِّفة، ترمى إلى تشييد نظامٍ توتاليتارى جديد، قوامه الهَيْمَنة الرقميّة. وباعتبار أنّ مُحترفى العمل السّياسى لطالما أنكبّوا على مُحارَبة الإعلام، نتيجة تطلُّعهم للاستحواذ على سلطة الحقيقة، فإنّهم لا يتوانون عن استهداف منابره وتَطَلُّعاته فى لحظاتِ التحوّلات الحاسمة.
يقول المفكر التونسى «فتحى التريكى»: «لم يفتأ دونالد ترامب يوجه الإهانات ضدّ الصحفيين والإعلاميين من أجل إخضاعهم إلى سلطته، والحقيقة أنه خلال حملته الانتخابية وصف مؤسسات الإنتاج وبيت الحقيقة بالفساد وعدم النزاهة، والكذب... إلخ، وقد كان يستهدف الجامعيين والقضاة والصحفيين أيضا.
تتمثلُ وظيفة الإعلام، مكتوبا كان أم مرئيا، فى نشر ثقافة سياسية عبر توخى الدّقة فى تصيد الخبر وتحليله ونقده؛ إذ يتركز هاجس رجل الإعلام المُختصّ فى البحث عن الحقيقة وإعادة بنائها، ما يحيله إلى وسيطٍ يتموضع بين السّياسى والمَعرفى من جهة، وبين الرأى العامّ ومُحترفى السياسة من جهة أخرى. وتتركّز الأداة التى يعتمدها الإعلامى المُختصّ فى بحثه عن الحقيقة من منظورٍ عقلانى على آليّات البرهنة والتقصّى والاستقصاء المنطقى (فتحى التريكى: 152).
لا ريب فى أنّ وسائل الإعلام لم تَعُد الواجهة الرئيسة التى يتواصل من خلالها رجل السياسة مع الرأى العامّ؛ إذ أصبح رجل السّياسة فى أيّامنا هذه يستفيد من مُنجز الثورة الإعلاميّة والرقميّة، وتكنولوجيا المعلومات والاتّصالات المتطوّرة، بحيث تساعده هذه الأخيرة على توجيه الحوار وفق الطريقة المُنسجمة مع توجُّهه الإيديولوجى، من دون أن تلزمه بتوظيف إِواليّات النقد والبرْهَنة، بقدر ما تتيح له إمكانات استمالة عاطفة الجمهور ووجدانه، «وبهذا، فبإمكانه حتّى الذهاب إلى حدّ تحويل انتباه الجمهور عن كلّ ما هو «أمر واقع»، والتغطية بالتالى على كلّ الأحداث الواقعيّة» (فتحى التريكى: 149).
لم يَسلم الإعلامُ الجديد من لوثة تكنولوجيا الاتّصال والتقنيّات الحديثة، إذ أمسى بدَوره يوظِّف ميكانيزمات إثارة عاطفة وأحاسيس الجمهور الواسع، لِيتركَّز همّه الأقصى فى الكشف/ عن، و«فبركة» الأحداث الشاذّة والسلوكات الغريبة والمُدهِشة التى تستأثر بفضول الجمهور وتؤجِّج عاطفته، كى يُبادِر إلى إبداء رغبته فى الازورار عن «الحوار الجادّ، والتحليل العقلى والبحث الرصين عن الأشياء الحقيقيّة والجليّة علميّا» (فتحى التريكى: 149). هكذا أصبحت منهجيّة تأجيج العاطفة والوجدان، نواة عصر ما بعد الحقيقة، بعدما كانت الحقيقة بنت العقل على الدوام.
• • •
لطالما استندت عمليّة إعادة تأسيس الحقيقة على عمليّتَيْن فكريّتَيْن: التصديق وقابليّة التحقُّق، فى حين نلفى عصر ما بعد الحقيقة يستند إلى الكذب ومُعاداة الحقيقة، بل الأدهى من ذلك أنّه يستند إلى الإشاعة، والمُجادلات، والتحيُّز، والتشتُّت الفكرى، والجُبن، والشَلل، وسائر الرذائل المعرفيّة التى يسهل تسريبها إلى المشاعر من دون الوعى بأدنى حاجةٍ إلى اعتمادِ معيارَى التصديق وقابليّة التحقُّق، يقول فتحى التريكى: «فباستطاعة التلفزيون استعمال التلصّص مثلا، ونفاد الكاميرا إلى حياة الناس الخاصّة. أمّا تلفزيون الواقع، وميكروفون الشَّارع، فهُما من العمليّات التى تعطى الانطباع بأنّ الحقيقة المنقولة مؤسَّسة على الواقع، والحال أنّها ليست سوى أبنية قامت لأجل سلطةٍ سياسيّة وماليّة معيّنة»، (فتحى التريكى: 154).
يَتَّكِل عصر ما بعد الحقيقة على الملتميديا التى تتوجَّه صوب الجمهور على نحو مباشر، مُبْدِيةً رغبتها فى الازورار عن سائر الحدود والنُّخب؛ إذ يتمثّل هدفها الرئيس فى إثارة عاطفة الجمهور وصناعة الرأى وتحريك الحشود، يقول فتحى التريكى: «يُمكن أن تتغاضى السياسات عن المفكّرين والصحفيّين المُحترفين كى لا تصل أفكارهم وبرامجهم إلى الناس. فهم يستخدمون الآن الميلتيميديا، والشّبكات الاجتماعيّة وكّل ما تتيحه الإنترنت والتكنولوجيا الجديدة للمعلومات لأغراضهم ومصالحهم»، (فتحى التريكى: 154).
تنظر أيديولوجيا عصر ما بعد الحقيقة إلى الفرد بوصفه كائنا عاطفيّا وجدانيّا، لا يتفاعل مع حرفة القراءة، ولا إبستمولوجيا المُناقَشة، ولا نظام الخطاب، ولا سيرورات البرْهَنة والنقد، بقدر ما تناسبه الفرجة، فكلّ شىء بات يُحَوَّلُ إلى فرجة فى أيّامنا. يقول فتحى التريكى: «تتيح الإخراجات السينمائيّة للسياسى أن يَستخدم المشاهد لحسابه ويَظهر هو نفسه فى مظهر فُرجوى عبر وسائل مُختلفة على غرار الخطابة فى قوله، والإخراج المرئى، والإخراج الصوتى... إلخ. يتعلّق الأمر فى النهاية بطريقةٍ جديدة منمَّقة وتكنولوجيّة فى استخدام البروباغاندا»، (فتحى التريكى: 157).
لا ريب فى أنّ رجل الإعلام والصحافة يتحمّل نصيبا من المسئوليّة فى ما آل إليه وضع الإعلام الجديد من تحوُّلٍ سلبيّ، جنى على الصحافة والتواصُل الإعلامى برمّته. فعلى الرّغم من خضوع أغلب المؤسّسات الإعلاميّة لسطوة أصحاب المال، إلّا أنّ هؤلاء كما يقول فتحى التريكى: «لا يبحثون بالتأكيد عن مكسب فى عمليّة الشّراء هذه، إنّما بالأحرى يبحثون عن سلطةٍ متزايدة على الجمهور الأوسع وعن وسيلة تظلّ ناجعة من أجل التحكُّم فى رغباته وعاطفته»، (فتحى التريكى: 157).
النص الأصلي
https://bit.ly/48ntZss