تونس.. دروس البداية فى تغيير منشود
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الخميس 20 يناير 2011 - 9:36 ص
بتوقيت القاهرة
احتفل المواطنون فى البلدان العربية كلها بالنتائج المبهرة التى حققتها انتفاضة الشعب التونسى ضد الفساد، والقمع، والقهر، وانسداد سبل الحياة الكريمة. نجح التوانسة فى فرض التغيير فرضا وفى التخلص من رأس النظام، ويبقى أمامهم، وقد بدا التغيير، أن يخوضوا فيه ليغيروا فى هياكل النظام السياسى وقواعده، أو ليغيروا النظام السياسى برمته.
هذه مهمة الشعب التونسى الذى أثبت أنه على مستوى آماله وتطلعاته وأنه قادر على تحقيقها.
أما المواطن والمراقب العربى المخلص لمبادىء الأمانة، والحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، فإن عليه أن يساند أخوته التوانسة مساندة نشطة، من جانب، وأن يستخلص الدروس من حركتهم ومن نجاحها المطلق خلال وقت قصير، من جانب آخر.
أول الدروس اللافتة للنظر هو أن العرب اعتبروا التغيير فى تونس شيئا يخصهم مباشرة، سواء اتخذ هذا الشعور شكل التضامن مع الشعب التونسى، والاحتفال معه، والاستبشار به أو اكتسى شكل الرفض للمقارنة بين الأوضاع فى تونس، من جانب، والحالة فى هذا البلد العربى أو ذاك، من جانب آخر.
الاحتفال من جانب هؤلاء، والرفض من جانب أولئك، يرجع إلى الاتفاق على التشابه فى الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية فى تونس وفى البلدان الأخرى، أو إلى دحض هذا التشابه، ولكنه يعود أيضا إلى مجرد أن تونس بلد عربى.
وكان هذا من باب التضامن بين الديمقراطيين الساعين إلى الحرية والعدالة الاجتماعية. بالشكل نفسه تضامن ناشطون ومراقبون ومواطنون من غير العرب مع الشعب التونسى وانتفاضته. ولكن شعورالعرب ذهب إلى أبعد من ذلك، فاعتبروا أن الانتفاضة التونسية انتفاضتهم، وأن نجاحها نجاحهم، ولم يكن تفنيد البعض منهم لانطباق مثلها على بلدانهم إلا تأكيدا على تشابه البلدان العربية وعلى قابلية المقارنة بينها.
لقد أثبتت ردود الأفعال على الانتفاضة التونسية فى البلدان العربية وجود تكوين معنوى عربى متين يفند شكوك المتشككين فى وجود رابطة عربية ويستدعى بناء تكون اقتصادى وسياسى عربى يرقى الى نفس مستواه.
الدرس الثانى يتعلق بخطوط التمايز بين مواقع القلة القليلة القائمة على النظام السياسى والمستفيدة منه، من جانب، و مواقع الأغلبية الساحقة من الشعب التونسى، من جانب آخر، الخطوط هذه ميزت الأمانة عن الفساد، والحرية عن القمع، والديمقراطية عن القهر، والعدالة الاجتماعية عن الاستئثار والتباين. خطوط التمايز كلها سياسية واقتصادية ذات نتائج اجتماعية، ولذلك فإن المطالبات كلها سياسية، واقتصادية، واجتماعية.
لم يتموقع التوانسة حول خطوط تمايز رمزية أو عقيدية، بل أدركوا أن الديمقراطية الاقتصادية والسياسية هى الكفيلة ببناء مجتمع متماسك وحمايته، وبممارسة كل منهم لعقيدته ومعتقده بحرية وطمأنية، وفى ظل احترام المواطنين لعقيدة كل منهم ومعتقده.
الدرس الثالث هو أن للقمع حدودا. ولعل هذا هو الدرس الأهم فى لحظات انهيار نظام سياسى وانبلاج نظام جديد بديل. لقد كان نظام الرئيس زين الدين بن على مثالا للنظام البوليسى القمعى.
لم يتوان النظام عن ملاحقة المعارضين والمحتجين من الإسلاميين، واليساريين، والليبراليين، والزج بهم فى السجون. وقَطع النظام من أوصال المجتمع السياسى فحظر أحزابا واستتبع أحزابا أخرى، وحاصرها كلها وشلّ نشاطها. وانقض النظام بشكل عنيف على المجتمع المدنى فأمم التنظيمات المهينة، وانهال بالضربات على منظمات حقوق الإنسان وخصها بالملاحقة، والتجسس، والعنف. واضطر النظام أعدادا كبيرة من السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان إلى العيش فى المنفى. القهر، والقمع، وسد كل فتحات التنفس أمام النظام السياسى مكنت المستفيدين منه من أن يعيثوا فسادا ويرتعوا، فاحتكروا الثروات ووظفوا النشاط الاقتصادى للشعب التونسى لخدمة مصالحهم وحدهم، وللفوز بثماره وبنتائج أى نمو فيه، وهو النمو الذى تباهوا بالارتفاع الخادع لمعدله. ومع ذلك، لم تفلح كل أشكال القمع والقهر ومنع التنفس عن النظام السياسى فى القضاء على المجتمع. للمجتمع وأفراده آليات حياة يستطيع النظام السياسى، إن كان كفؤا وخيرا، أن ينظمها وأن يساعدها على النمو والازدهار، ولكنه لا يقدر أبدا، وإن بلغ تفننه فى القمع والقهر والملاحقة مبلغه، أن يخنقها ويميتها. هكذا كان انتحار شاب، احتجاجا على السدّ المتعمد لكل سبل العيش أمامه، حتى الهامشية منها، ضربة البداية فى حركة احتجاجات مجتمعية وشعبية، تصاعدت واتسعت دائرتها، وتعدت أشكالها، حتى فاجأت العالم بسرعة نجاحها فى تحقيق هدفها الأول، وهو تعرية السلطة من شرعية مغتصبة والتخلص من رأسها.
لم يقصر النظام فى مواجهة احتجاجات المجتمع وانتفاضته باستخدام أدوات القمع التى لم يعرف سواها، والتى كانت قد دانت له بالنجاح حتى شهر مضى، ولكن رد الفعل القمعى لا يمكن أن ينجح دائما وإلى الأبد فى اللحاق بالفعل، خاصة إذا كان الشعب عازما بفعله على تحقيق مراده. ولقد كان الشعب التونسى كذلك. وساعده على النجاح فى تحقيق مراده الاخلاص والمسئولية، التى لعبت بهما أدوارا حيوية فى الانتفاضة نقابات العمال ومنظمات حقوق الإنسان الصامدة.
لقد أدت حركة المجتمع إلى تراجع النظام التونسى أولا ثم إلى شل آلته القمعية. وكان رفض الجيش التونسى لممارسة العنف ضد المواطنين هو اللحظة الثورية الحاسمة، على أنه من المهم التشديد على أن الجيش التونسى لعب دورا مساندا بامتناعه عن ممارسة العنف.
أما الريادة فى إحداث التغيير فلقد كانت بلا ظل من شك للمجتمع التونسى ذاته. وجوهر هذا الدرس أن للمجتمعات الكلمة الأخيرة دائما، وأن العنف يمكن أن يمارس والرصاص يمكن أن يطلق على المئات وأن يقتل منهم العشرات. حتى ذلك الوقت يمكن لآلة القمع أن تزعم أنها تمارس عنفا مشروعا حماية للنظام العام، غير أن أى آلة قمع لا يمكن أن تصوب رصاصها على عشرات الآلاف وأن تتحمل مسئولية قتل الآلاف أو المئات منهم.
الدرس الرابع يتعلق بالعالم الخارجى، خاصة فى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية اللتين ارتبط الرئيس زين العابدين بن على بعلاقات حميمة معهما، واعتبرتاه هما مثالا على الحداثة، والتقدم، والحكمة.
لقد سكتت المنطقتان، وفرنسا والولايات المتحدة بالذات. وطوال شهر كامل، لم تصدر عنها تعليقات أو تنديدات رقيقة إلا فى الأيام الأخيرة السابقة على سقوط الرئيس التونسى، عندما بدأ إيقاع الاحتجاجات فى التسارع.
الحجة غير المعلنة والمعلنة فى وقت واحد، هى حماية الرئيس التونسى للحداثة ومظاهرها، ووقوفه فى وجه التطرف الدينى. أما الحرية، والتعددية، والديمقراطية، ومحاربة الفساد، فلم يكن لها أى وجود فى حسابات فرنسا والولايات المتحدة. شىء إيجابى ألا تنصب نفسها هذه القوة العظمى أو تلك راعية لمثل عليا أيا كانت. ولكن عليها عندئذ أن تكف عن الدعوة إلى نفس هذه المثل فى كل مكان، وليس فقط فى تونس أو غيرها من بلدان المنطقة العربية.
أما إذا أرادت الاستمرار فى الدعوة إلى الحرية والديمقراطية ومحاربة الفساد، فإنها ستنستفيد إذا أخلصت حقا لهذه المثل. إن التعددية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية هى الحصن الحصين أمام كل أنواع التطرف، الدينى منه، والعسكرى، والفاشى، واليسارى.
على أن وجه السخرية هى أنه عندما سقط الرئيس التونسى، أشادت إحدى الدولتين بشجاعة التوانسة وكبريائهم وشددت على حقهم فى اختيار من يحكمهم، بينما رفضت الأخرى إيواء الرئيس التونسى المخلوع على أراضيها، وأوقفت التعامل فى الحسابات المصرفية لأسرته، وعزمت على ترحيل من وصل من أعضائها إلى أراضيها فى الأيام السابقة على السقوط. لم تشفع الصداقة ولا حماية الحداثة للرئيس بن على! لعل فى ذلك عبرة لمن يعتبر.
الدرس الأخير يبدأ الآن. على المراقبين والمهتمين العرب أن يتابعوا بيقظة وعن قرب إجراءات التغيير السياسى فى تونس وخطواته. كان العيش فى ظل نظام الرئيس بن على ثم التخلص منه شاقا.
لكن سيكون أصعب اعتبارا من الوقت الراهن تفكيك هياكل النظام السياسى التسلطى وطرائق عمله، ثم بناء نظام سياسى تعددى ينعم فيه التوانسة بما يستحقون من حرية، وديمقراطية ويتمتعون فيه بثمار نشاطهم الاقتصادى وبثروات بلدهم، فى ظل عدالة اجتماعية تحمى المجتمع وتماسكه.
هذا النظام السياسى، الذى يبنيه الشعب التونسى سيكون نموذجا يهديه إلى بقية الشعوب العربية فيسهم بذلك فى رفعتها ورقيها وفى لحاقها بركب الحضارة والتقدم.