مشكلة قانون الاستثمار الجديد
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 20 يناير 2015 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
مشروع «قانون تطوير منظومة الاستثمار» الذى أعلنت عنه وزارة الاستثمار منذ أيام تمهيدا لصدوره قبل المؤتمر الاقتصادى فى مارس القادم، أثار الكثير من الجدل فى الدوائر الاقتصادية والقانونية. ومع اختلافى مع العديد من جوانب القانون المطروح إلا أننى أجد أن التحية واجبة لوزير الاستثمار الذى طرحه للنقاش على نطاق واسع وأتاحه لكل من يرغب فى المشاركة بالنقد أو التأييد لأن هذا هو مفهوم الحوار المجتمعى الذى نفتقده فى كثير من السياسات والتشريعات التى تصدر دون سابق إنذار. ونظرا لضيق المساحة هنا فسوف أكتفى بالتطرق إلى الخطوط العريضة للقانون دون التفاصيل، خاصة وأن مشكلته من وجهة نظرى ليست فى تفاصيله ولا فى صياغة أحكامه وإنما فى الفلسفة العامة التى ينهض عليها، وبخاصة ما يتعلق بالحوافز الممنوحة للمستثمرين.
ولنبدأ بخلفية موجزة عن الموضوع. فقد عرفت مصر خلال الخمسة والأربعين عاما الماضية قوانين استثمار متعاقبة بدأت بصدور القانون رقم ٦٥ لسنة ١٩٧١ والذى صدر أثناء الاستعداد لحرب تحرير سيناء فلم يكن له أثر كبير. وفى أعقاب نصر أكتوبر صدر القانون رقم ٤٣ لسنة ١٩٧٤ (المعروف باسم «قانون الانفتاح») لكى يفتح الباب أمام الاستثمار الأجنبى، وقد تم تعديله بعد ذلك لكى يستفيد منه رأس المال الوطنى. ثم جرى تعديله عدة مرات أخرى إلى أن صدر قانون الاستثمار المعمول به حاليا وهو القانون رقم ٨ لسنة ١٩٩٧. وخلال هذه السنوات كلها اعتمدت تلك التشريعات على فكرة واحدة لم تتغير لجذب الاستثمار، وهى تحديد «مجالات استثمارية» معينة يتم منحها مزايا وإعفاءات وضمانات، أهمها إعفاء ضريبى لمدد تتراوح بين خمس سنوات وعشرين سنة بحسب موقع مزاولة النشاط. وقد سارت مصر على هذا المنوال حتى عام ٢٠٠٥ حينما تم تعديل قانونى الضريبة على الدخل والاستثمار ووضع نهاية للإعفاءات الضريبية بسبب ما كان هذا النظام قد آل إليه من فساد إدارى وتلاعب ضريبى وضياع موارد هائلة على الاقتصاد المصرى. وفى تقديرى أن إلغاء الإعفاءات الضريبية كان قرارا صائبا، وقد استمر العمل به طوال السنوات العشر الماضية. وأخيرا فقد قررت الدولة عقد مؤتمر اقتصادى عالمى فى مدينة شرم الشيخ، ومعه بدأ التفكير فى إصدار قانون جديد للاستثمار لكى يكون عنوانا للمرحلة المقبلة، وعلامة على أن مصر تسعى لجذب الاستثمار الأجنبى مرة أخرى.
ولكن بقدر أهمية هذا الهدف ــ أى السعى لجذب الاستثمار الأجنبى ــ فإن وجه الضعف الرئيسى فى مشروع القانون الجديد أنه يسعى لتحقيق ذلك باستخدام وسائل لم تعد مناسبة كما أنها غير ممكنة التطبيق. فقد اعتمد المشروع على فكرتين أساسيتين: الأولى هى العودة لتقديم مزايا وحوافز ضريبية ولكن بقرار مجلس الوزراء وليس بنص القانون، والثانية هى التوسع فى نطاق عمل الشباك الواحد بهيئة الاستثمار بحيث لا يقتصر على تأسيس الشركات وإنما يمتد إلى إصدار تراخيص مزاولة النشاط. وكل من الفكرتين محفوف بصعوبات قانونية وعملية لا يمكن التغاضى عنها:
بالنسبة للإعفاءات الضريبية، فإن مشروع القانون الجديد قد جاء بتصور مخالف للدستور وغير قابل للتطبيق، وهو منح مجلس الوزراء صلاحية تقرير إعفاءات ضريبية للمشروعات ذات القيمة الاقتصادية الخاصة، سواء من حيث حجم التشغيل أو جذب تكنولوجيا جديدة أو غير ذلك، وفى هذا مخالفة لأحد المبادئ الدستورية المستقرة، وهو ضرورة أن يكون فرض الضريبة العامة بقانون وكذلك الإعفاء منها، وعدم جواز أن يكون ذلك بقرار إدارى ولو كان صادرا من مجلس الوزراء. ويزيد من حجم المخالفة الدستورية فى مشروع القانون الجديد أنه قد منح مجلس إدارة هيئة الاستثمار صلاحية غير مسبوقة، وهى تخفيض الإعفاء الضريبى الممنوح للشركة التى تخالف القانون واللوائح. وبذلك يكون القانون الجديد قد خالف الدستور مرتين، الأولى بمنح مجلس الوزراء حق الإعفاء من الضريبة، والثانية بمنح هيئة الاستثمار حق تعديل هذا القرار وتخفيض مدة الإعفاء. أما من الناحية العملية فلا أتصور أن مجلس الوزراء يمكنه ممارسة هذه السلطة الجزافية فى منح الإعفاءات الضريبة بلا ضوابط واضحة فى القانون دون أن يتعرض للنقد وللاتهام بالمحاباة لمستثمرين دون غيرهم.
وأما بالنسبة لإصدار تراخيص النشاط، فإن مشروع القانون يستحدث نظام «الإنابة القانونية» حيث يصبح موظف هيئة الاستثمار نائبا عن المستثمر فى إنهاء جميع المعاملات المطلوبة من أجل الحصول على تلك التراخيص. والفكرة نبيلة بلا شك، ولكن تنفيذها على جميع المشروعات الاستثمارية لن يكون ممكنا. وهنا يجب الإشارة إلى أن القانون الجديد قد أعاد تعريف مفهوم «المشروع الاستثمارى» لكى يشمل كل الأنشطة الاقتصادية فى مصر، أيا كان القانون الخاضع له، من كشك السجائر حتى مصنع الحديد والصلب، وهذا معناه أن ولاية هيئة الاستثمار فى إصدار التراخيص بعد أن كانت لا تزيد على أربعين أو خمسين ألف مشروع سوف ترتفع إلى عشرات أضعاف هذا الرقم، وهو ما لا أظن أن من وضعوا القانون قد انتبهوا لعواقبه. ويترتب على ذلك أن هيئة الاستثمار سوف تكون ملتزمة بأن تنوب عن مئات الآلاف من المستثمرين فى الحصول على التراخيص وأنها ستكون وسيطا فى التعامل مع الجهاز الإدارى للدولة بأكمله، بوزاراته وهيئاته ومحافظاته ومجالسه المحلية (وما أدراكم ما المجالس المحلية) وهذا تصور مستحيل، إلا إن كان المقصود به هو تقديم خدمة خاصة لكبار المستثمرين فقط أو لمن تقرر هيئة الاستثمار منحهم هذه المعاملة المتميزة، وهذه تفرقة لا تجوز قانونا. الخلاصة أنه لا بديل فى موضوع التراخيص عن مراجعة القوانين واللوائح الخاصة بها وإصلاحها من جذورها بدلا من محاولة الالتفاف عليها أو تجاهل الجهات صاحبة الولاية الأصلية. وهنا أود أن أؤكد - من واقع تجربتى الشخصية رئيسا لهيئة الاستثمار والتعامل مع موظفيها وتطوير العمل بها - أن العيب لا يكون فى موظفى الحكومة وإنما فى تداخل وتضارب اللوائح والصلاحيات، وعدم الاستعداد للقيام بالإصلاح الإدارى من جذوره.
مشروع القانون يتضمن أفكارا أخرى عديدة، بعضها جيد وبعضها غير مناسب، ولكنى فضلت عدم الخوض فيها لأن ما يستحق المناقشة فى هذه المرحلة هو الهدف الرئيسى من إصدار القانون. فإن كان الهدف هو جذب الاستثمار الأجنبى، فإن العودة لنظام الإعفاءات الضريبية ليس الحل، خاصة وأن مصر تواجه احتياجا غير مسبوق لموارد تسد بها عجز الموازنة وتمول بها المشروعات القومية الكبرى. أما إلغاء دور أجهزة الدولة ومصالحها وهيئاتها فى إصدار التراخيص فهو غير ممكن التطبيق عمليا. جذب الاستثمار يحتاج إلى قوانين سليمة وإجراءات سريعة بلا شك، ولكنه يحتاج أيضا إلى سياسة اقتصادية واضحة، وقضاء سريع وناجز، وسلام اجتماعى، وتخفيف قبضة الدولة عن التدخل فى شئون المستثمرين، ومراجعة للوائح تفصيليا من أجل تعديلها بدلا من محاولة تجاوزها بآليات استثنائية. لذلك فأقترح أن يعاد النظر ليس فى الصياغة القانونية لمشروع القانون الجديد ولا مجرد تعديل بعض أحكامه، ولكن فى مدى الحاجة إليه أصلا فى شكله الراهن حتى لا يكون اندفاعنا نحو تقديم قانون جديد لمؤتمر شرم الشيخ مصدرا لمشاكل قانونية فى المستقبل تزيد الاستثمار تعقيدا وتضاربا.