كيف تقضى على الإرهاب فى خمسة أعوام؟
جلال أمين
آخر تحديث:
الثلاثاء 20 يناير 2015 - 7:57 ص
بتوقيت القاهرة
لم أشاهد هذا البرنامج التليفزيونى بنفسى، ولكن أخبرنى به شاب من شباب الأسرة، فسررت بما قاله سرورا عظيما، وان كنت سرعان ما قلت لنفسى: «وهل هذا ممكن؟ ان نقضى على الإرهاب بهذه السهولة؟».
المذيع مشهور ومحبوب، وهو أيضا مثقف وموهوب، وقرأت له أكثر من رواية تدل على ذلك، وهو الآن يقوم باقتراح جرىء عن طريقة لاجتثاث الإرهاب المنسوب إلى الدين، من جذوره، بتدريس كتاب معين على جميع التلاميذ لمدة خمس سنوات (أو هكذا قال لى قريبى الشاب الذى استمع إلى البرنامج). ففى رأيه أن هذا كفيل بتغيير فهم الإسلام إلى الأفضل، فإذا بالشباب وصغار السن يصبحون قادرين على تمييز التفسير العقلانى للدين عن غيره، ومن ثم تحصينهم ضد تلك التفسيرات التى تدفع إلى ارتكاب الجرائم والإرهاب.
الذى سرنى سرورا كبيرا هو أن مؤلف هذا الكتاب الذى ذكره، هو أبى الأستاذ أحمد أمين، والكتاب هو «فجر الإسلام»، وهو الجزء الأول من سلسلة من تسعة أجزاء، وصفها أبى بأنها «تأريخ للحياة العقلية فى الإسلام» منذ ظهوره، وهو ما شبهه بالفجر، وتطوره إلى «الضحى» و«الظهر»، ثم لخص تاريخ الإسلام كله، قرب نهاية حياته فى جزء صغير سماه «يوم الإسلام»، إذ أصبح هذا التاريخ يوما كاملا، من ظهور الفجر إلى حلول الليل.
الكتاب، بشهادة الجميع، كتاب عظيم، وما أكثر ما سمعته من بعض كبار المثقفين المصريين والعرب، من إشادة به واعتراف بتأثيره العميق فى فهمهم للإسلام. والكتاب متحضر جدا، بالمعنى الذى أفهمه ويفهمه هؤلاء المثقفون الذين تأثروا به من وصف «التحضر». نشر الجزء الأول منه (فجر الإسلام) منذ نحو تسعين عاما، فاستقبل استقبالا حافلا، ولايزال يعاد طبعه ونشره، وإن كان قد حدث خلال هذه التسعين عاما ما نعرفه من نمو تفسيرات «غير متحضرة» للدين، انتهت بنا إلى ما نحن فيه الآن. وها هو المذيع الشهير ينصحنا بتدريس هذا الكتاب القديم فى المدارس عسى أن يساهم هذا فى انتشالنا مما نحن فيه.
للأستاذ أحمد أمين كتاب آخر عظيم اسمه «زعماء الإصلاح فى العصر الحديث»، نشر فى سنة 1947 وقد هدف أبى من كتابته (فضلا عن الهدف العلمى البحت) إلى تنبيه الشباب إلى شخصيات عظيمة فى التاريخ الحديث للإسلام، ومن مختلف البلاد الإسلامية، بذلت جهدا جبارا «للاجتهاد».
أى لتفسير الإسلام تفسيرا يتفق مع حاجات الإنسان فى العصر الحديث، دون التنكر للمبادئ الإسلامية، فيضم الكتاب فصولا شيقة للغاية عن الشيخ محمد عبده فى مصر، وأستاذه جمال الدين الأفعانى، والسيد أحمد خان من الهند، وخير الدين التونسى... إلخ. فلما قرأ الكتاب وقت صدوره وزير المعارف، مثقف ومصلح كبير بدوره، (عبدالرزاق السنهورى) قرر تدريسه على تلاميذ السنة الرابعة من الدراسة الثانوية، مدفوعا بلا شك، بدافع مماثل لما دفع المزيع الشهير لاقتراح تدريس «فجر الإسلام»، وهو ترسيخ فهم عقلانى ومتحضر للدين فى عقول الشباب.
•••
كل هذا عظيم جدا ومفهوم تماما. فلماذا دفعنى التفكير فيه وتذكره إلى الشعور بالأسف، إذ قلت لنفسى «وهل هذا ممكن الآن؟». إنى لا أقصد صعوبة تصور ان يظهر مثل هذه الكتب الآن، فأمثالها تظهر بالفعل من حين لآخر، وان اتخذت صورا وأساليب مختلفة بسبب تغير الظروف. ولكنى أقصد صعوبة تصور أن يصدر قرار كهذا من وزير من وزرائنا الآن.
هناك أولا افتراض أن يكون الوزير قد قرأ مثل هذه الكتب أصلا وقدر أهميتها. أنا لا أريد أن أسىء إلى أحد، فبعض وزرائنا بلاشك من كبار المثقفين، ولكنى لا أخفى على القارئ شعورى بأنه، مع تتابع أسماء الوزراء المسئولين عن التعليم طوال الستين عاما الماضية، بدأت أفقد ثقتى فى أن يكون لمعظم وزرائنا ثقافة، ونظرة إلى الحياة، وإلى دور الثقافة فى مصر، مثلما كان لرجل مثل عبدالرزاق السنهورى، ثم فلنفرض أن رزقنا الله بمثل هذا الوزير المثقف، هل يا ترى جاء إلى الوزارة مدفوعا بالرغبة فى إصلاح التعليم أم برغبات أخرى، هى على الأرجح رغبات تتعلق بأمور مادية؟ ولكن فلنفرض أن جاء وزير مثقف ومدفوع بالرغبة فى الإصلاح، فمن الذى سيجده جالسا بجواره فى مجلس الوزراء؟ وزراء من نوعه أم من نوع آخر؟ وإذا افترضنا أن طرح الرجل فكرة تدريس مثل هذه الكتب على مجلس الوزراء، فما الذى تتصور أن يكون عليه استقبال بقية الوزراء لهذه الفكرة؟
أسئلة لا تنتهى، من بينها ولاشك أسئلة عن مدى إلحاح أحد أقارب الوزير عليه، ممن قد يكون له كتاب يود تقريره على التلاميذ من أجل ما يجلبه من ربح، فيقوم الوزير بتقرير هذا الكتاب بالفعل على التلاميذ لإرضاء قريبه، لقد مررت بهذه التجربة شخصيا، عندما كان ابنى فى إحدى سنوات الإعدادية، وجاء يشكو لى من سخافة القصة المقررة عليهم، فقرأتها ووجدتها فعلا كما وجدها، ثم عرفت من بعض المصادر كيف حدث أن اختيرت هذه القصة لتعذيب التلاميذ، وظهر أن السبب هو من النوع الذى ذكرته حالا.
ثم لنفرض أن كتابا جيدا ومفيدا ومضادا للفكر الإرهابى حدث أن قرر على التلاميذ بالفعل، فما هو الأثر الذى يمكن ان ينتجه على تلاميذ يقوم بالتدريس لهم مدرس أو مدرسة يماسرون هم أنفسهم الإرهاب الدينى ضد التلاميذ الأقباط، أو ضد التلميذات غير المحجبات، مدفوعين إلى هذا الإرهاب بظروفهم المعيشية البائسة التى ينتقمون منها بهذه الطريقة المبتكرة، وهى طريقة معاملتهم لتلاميذهم؟
بل ولنفرض أن بعض التلاميذ حسنى الحظ، أسعدهم حظهم بمدرس جيد أو بمدرسة عاقلة، فكيف يحتفظون بالأثر الجيد للكتاب المقرر، وبتأثير المدرس أو المدرسة العاقلة، وهم يتعرضون يوميا فى بيوتهم لوسائل إعلام تعمل على ترسيخ فكر متخلف ومتشنج، وترفض استضافة معلقين يفهمون الدين فهما عاقلا؟ إلى أين يهرب التلميذ أو التلميذة اللذان فهما الكتاب الجيد وتأثرا به، ليحتفظا فى ذهنيهما بالرسالة التى كتب الكتاب من أجلها؟
الخلاصة أن كل شىء فى مصر الآن يعمل ضد نشر الفكر العقلانى: الكتب المقررة على التلاميذ، والوزراء ووكلاء الوزارات الذين يقومون باختيار الكتب المقررة، والمدرسون المكلفون بتدريسها، ووسائل الإعلام التى لا تتوقف عن بث ما يتعارض مع هذا الفكر، ومصاعب الحياة اليومية التى من شأنها أن تؤدى بالناس إما إلى الكفر أو إلى الإرهاب.
الأمر فى رأيى، بالرغم من كل ذلك، ليس ميئوسا منه، ولكنه يحتاج إلى عمل مخطط جيدا، على مختلف الجبهات، وكل جزء منه فى انسجام تام مع بقية الأجزاء، لأن الذين خططوا له أشخاص حسنو النية، ومتحررو الإرادة، ويسود فيمن بينهم هذا الانسجام التام الذى يجلبه حب الوطن والإخلاص له. لا يهم بعد ذلك ما إذا كانت النتائج الطيبة سوف تظهر بعد خمس سنوات أو أكثر. إذ لا يهم طول المدة إذا شعر الناس بأننا نسير فى الطريق السليم.