اقتصاديات السلام والضحك!
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 20 يناير 2020 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
عام 1971 نشر الكاتب والاقتصادى الكينزى الشهير «جون كينيث جلبريث» كتابه الفريد «الاقتصاديات، السلام والضحك» وهو عبارة عن عدد من المقالات المنشورة والمحاضرات التى ألقاها فى ستينيات القرن الماضى متناولا السياسة الخارجية، المتغيرات الاقتصادية وأبرزها التضخم والركود، دول العالم الثالث، الرأسمالية والاشتراكية فى ضميرى الغرب والشرق، تحولات الرئيس الأمريكى «نيكسون».. إلى غير ذلك من موضوعات معاصرة. لكن الملفت فى هذا الكتاب وغيره من كتابات «كينيث» مثل «اقتصاديات الغاية» أنه دائم البحث خلالها عن العلاقة بين الاقتصاد والمجتمع، يحاول أن يجد نقطة للتلاقى بين أهداف النمو الاقتصادى والرفاهة وبين سعادة البشر. يصطدم الكاتب الاقتصادى دائما بتحدى اللغة، شأنه فى ذلك شأن المتصوف الزاهد الذى تعجزه العبارات عن الإفصاح عمّا تجلّى له من كشوفات. بيد أن الاقتصادى لا تطيعه الكلمات لأسباب أخرى، فهو غارق بين تلال من المصطلحات الاقتصادية المركّبة التى لو حاول أن يتخلى عن بعضها للتبسيط، ربما اتهمه زملاؤه بالسطحية، ولو ترك لنفسه العنان فاغترف من تلك المصطلحات ما يعبر عن وجهة نظره لاتهمه القارئ غير المتخصص بالتنطّع!. هى إذن حيرة ومحنة يعيشها الاقتصاديون ويختلفون فيما بينهم فى كيفية التعايش معها.
***
عنوان الكتاب وحده حملنى على النظر إلى ما وراء علم الاقتصاد وفلسفة نشأته واستمراره. حملنى على ارتداء حذاء رجل الشارع غير ذى الاختصاص، والنظر من بعيد إلى تلك الهالة الغامضة المسمّاة بالاقتصاد. وجدتنى أسأل نفسى: ما عساه يريد منا ولنا هذا الكيان الكبير؟ يريد لنا خيرا أم يتربص بنا الدوائر نحن الأفراد لمصلحة مؤسسات وتنظيمات؟.. الإجابة لن تكون من كتاب جامعى أو مقال تزينه معادلات رياضية ونماذج قياسية، بل ينبغى أن تخاطب فى النفس البشرية رغباتها، أن تحقق للفرد غايته من البقاء، أن تشتبك مع تحديات واقعه الغارق فى مخاوف الفقر والديون وغلاء الأسعار، المتطلع إلى الرفاهية والسعادة واغتنام أوقات الفراغ. إن لم يكن الاقتصاد علما إنسانيا اجتماعيا، فماذا يكون؟ إن لم تكن غايات هذا العلم تنظيم أحوال ومعايش الناس بما يحقق لهم السعادة، فلا حاجة لنا به.
رئيس وزراء فنلندا «سانا مارين» اقترحت تقليص عدد ساعات وأيام العمل فى بلادها كى يحظى الموظفون بأوقات فراغ يقضونها مع عائلاتهم. من قبلها دولة اسكندنافية أخرى هى السويد طبّقت بالفعل قرارا بتخفيض ساعات العمل إلى ست ساعات. فى سياق كهذا يعمل علم الاقتصاد بطريقة إنسانية بديعة، فهو يعطّل كل ترّهات تكلفة الفرصة البديلة، والسعى الدائم الآلى نحو زيادة حجم الإنتاج، ونظريات المزايا التنافسية... فى محاولة لتحقيق أهداف أسمى وهى سعادة الإنسان. هذا لا يعنى بحال التخلّى عن أسباب التنمية الاقتصادية، بل على العكس تماما، لأن الإنسان السعيد وحده القادر على الإبداع، والدراسات «الاقتصادية» أثبتت زيادة الإنتاجية فى الدول التى خفضت ساعات العمل، واحترمت مواعيد الحضور والانصراف. هذا المنحى يعيدنا إلى محاولة بلوغ فهم أوسع للمشكلة الاقتصادية.
***
مدار المشكلة الاقتصادية هو تعدد الحاجات البشرية وندرة الموارد. هلك الناس سنوات طوال سعيا وراء تنمية الموارد المحدودة بشتى السبل. تخصص الاقتصاديون فى تطوير نظريات للنمو والتوزيع والأثمان بغية ضبط الأسواق والتحكّم فى مختلف الموارد. لكن قلة من الحكماء هم فقط من انتبهوا إلى الشق الثانى من المعادلة الاقتصادية، قليل من الأولين دعوا إلى القناعة وضبط النفس وهضمها حتى تكون الموارد المحدودة بطبيعتها كافية للجميع، يتم توزيع الفوائض بطريقة مرنة سلسة، يجتاح العالم سلام من نوع خاص، سلام لا مكان فيه لحقد أو حسد. هؤلاء الحكماء ليسوا بعلماء اقتصاد، هم فى الغالب أنبياء وحواريون وفلاسفة. منهم من خاطب النفس البشرية بمفردات الاقتصاد حتى يجرّد خطابه من المثالية المفرطة، فقال الصحابى الجليل على بن أبى طالب كرّم الله وجهه: «إن القناعة كنز لا يفنى» فصك بذلك نظرية علوية فى الاقتصاد يمكن إثباتها بالمعادلات الرياضية. القناعة خلق بشرى قابل للتدريب والتهذيب، يخطئه بعض الاقتصاديين بدعاوى التقشّف. فالقناعة بخلاف التقشّف يتحقق معها سعادة الإنسان بالقليل الذى يملكه، أما التقشّف فلا سعادة فيه على الإطلاق، بل هو برنامج قاسٍ يخضع له الناس (عادة الفقراء) خلال فترات زمنية محددة لتخفيض حجم الطلب الكلى والسيطرة على الأسعار. فى فترات التقشّف أنت كالصائم عن إشباع حاجاتك ترقب ساعة الإفطار لتطلق لنفسك وشهواتك العنان، لكن القانع بما لديه يصل إلى حالة الرضا بالقليل، لا يصطنعها ولا يتعجّل فواتها. إذا كان التقشّف مفروضا عليك من الخارج، فالقناعة مبعثها ترويض النفس من الداخل، تماما كالفرق بين الإلزام والالتزام.
إذا قنعت بما تملك فإنك لا تركن إلى الدعة والتماوت، بل تبحث عن سعادتك فى أشياء ليست بالضرورة مادية. تبحث عنها فى صحبة أبنائك، ونزهة يوم مشمس جميل، ومنظر طبيعى خلّاب، ولا تعجب إذا رأيت أغنى أغنياء الكوكب يلتمسون سعادتهم فى متع بسيطة، يعودون إلى الطبيعة ويندمجون فى تفاصيلها الدقيقة. وحتى لا يركن المتنطعون إلى تلك الدعوة فيعزفون عن العمل ويتفرّغون للتنسّك، فقيل: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» ونسبت أيضا تلك المقولة إلى سيدنا الإمام على بن أبى طالب، الذى نشأ فى مدرسة النبوة والفقه.
ما أعجز الإنسان عن بلوغ غاياته، بل ما أعجزه عن إدراك كنه وطبيعة تلك الغايات. فالإنسان يبحث عن السعادة فى كل شىء لكن قليلا من الناس من يدركونها، إما لأنهم يعيشون السعادة ولا يشعرون، أو لأنهم لا يعرفون عن أى شىء يبحثون، أو لأن السعادة ليست غاية نبلغها بل هى طريق نسلكه.
***
يبقى أن نوجّه فى ختام المقال إلى أن إهمال علم الاقتصاد لهذا الجانب من المشكلة الاقتصادية له ما يبرره، فمن المِحَن التى تعرّض لها الاقتصاديون على مدار العقود هى نسبة علمهم الحديث إلى سائر العلوم الطبيعية والاجتماعية. فمنهم من بالغ فى دمج الاقتصاد بالرياضيات والإحصاء حتى ينتزعه من العلوم الاجتماعية بشكل تام، ومنهم من ألقى به فى بحار الفلسفة والتنظير وعلم الكلام، لكن المؤكّد أن مدارس الاقتصاد السلوكى على تنوّعها قد عنيت بأثر السلوك البشرى على متغيرات الاقتصاد، ورفضت بشكل مطلق، ذلك الفصل الجامد بين قوانين الاقتصاد ونزعات البشر. مدرسة التوقعات الرشيدة مثلا خير دليل على ذلك، حيث تعتمد الكثير من العلاقات الاقتصادية على الدور الحيوى الذى تلعبه توقعات الأفراد فى التأثير على سلوك الظاهرة موضع الدراسة.
الحاجات البشرية المتنوعة والمتزايدة اعتبرت قديما من المسلّمات التى لا مساس بها فى البحث الاقتصادى، خشية أن تقع فى فخ الوعظ ومحاضرات التنمية البشرية غير المحترفة!... غالبية الناس يمقتون الوعظ، يكرهونه حتى فى الأعمال الأدبية والدرامية، من هنا كانت أهمية اختيار اللغة والسياق وفهم خفايا النفوس قبل المضى قدما فى إمالة الناس نحو القناعة وترشيد احتياجاتهم. إذا أردت أن تكون سببا فى هداية البشر فاعلم أن الناس تهديهم نفوسهم إلى ما يحبّون، وتهديهم أرواحهم إلى ما يألفون، وتهديهم جوارحهم إلى ما يطيقون، فكن مثالا لأوسط ما يحبون وأعرف ما يألفون وأرحم ما يطيقون.