مقومات الدولة في التجارة الخارجية
أيمن النحراوى
آخر تحديث:
الخميس 20 يناير 2022 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
يعتبر الميزان التجارى أحد أهم المصطلحات فى مجال التجارة الدولية، وهو يقدم مؤشرا اقتصاديا مهمًا لتوصيف حالة الصادرات والواردات السلعية فى دولة ما، ويحدث عجز الميزان التجارى عندما تكون القيمة الإجمالية للواردات السلعية أكبر من القيمة الإجمالية للصادرات السلعية، ويمكن للعجز فى الميزان التجارى لدولة ما إن يكشف عن بعض مواطن الضعف فى هيكل اقتصادها، من خلال رصد مدى كفاية أو قصور الطاقات الإنتاجية لاقتصادها عن تلبية احتياجات مواطنيها ومواطناتها، الأمر الذى قد يضطر تلك الدولة إلى الاستيراد من الخارج لتوفير هذه الاحتياجات، كذلك فإن الاستيراد الكثيف للمواد الغذائية يمكن أن يشير إلى قصور إنتاج الغذاء فى تلك الدولة عن توفير متطلبات الأمن الغذائى لمواطنيها ومواطناتها، واستيراد الآلات والمعدات والأجهزة يكشف عن قصور أو عدم قدرة هيكل القطاع الصناعى فى الدولة عن تصنيع منتجات أو معدات أو آلات أو أجهزة معينة.
من جهة أخرى، يمكن أن يكون الاستيراد عاملا مساعدا لتلبية طلب السكان على المنتجات والسلع التى لا يتيحها الهيكل الإنتاجى القائم فى البلاد، كما أنه يمكن أن يحقق إدخال عامل المنافسة فى السوق والأسعار بين المنتجات المحلية التى سيتعين عليها تحسين قدرتها التنافسية فى مواجهة المنتجات المستوردة.
الصادرات والمنافسة العالمية
ورغم تلك المبررات، تكمن مخاطر العجز المستمر فى الميزان التجارى فى استنزاف احتياطيات الدولة من العملات الصعبة، ولذلك فإن العديد من الدول تفضل قدر الإمكان تقليل وارداتها وتحقيق الزيادة فى صادراتها وتعظيمها مستهدفة تحقيق فائض فى ميزانها التجارى، وكلما زادت الميزة التنافسية للصادرات، كلما تسنى فتح أسواق جديدة، واكتساب المزيد من العملاء لها، وهكذا تتحقق دورة إيجابية مستمرة، فتكتسب الدولة الخبرة التصديرية فى الإنتاج والتسويق فى الأسواق العالمية، ويتولّد الدخل من تلك الصادرات من العملات الصعبة.
وهذا ما تحقق بالفعل فى جميع الدول التى حققت طفرات تنموية كبرى فى اقتصادياتها، بالتركيز على قطاع التصدير، مثل الصين واليابان وكوريا وهونج كونج وسنغافورة وتايلاند وماليزيا وفيتنام وغيرها، الأمر الذى انعكس إيجابيا على مستويات العمالة والتوظيف والدخل ومستوى المعيشة، بالإضافة إلى زيادة دخلها من العملات الصعبة.
وفى هذا الشأن تعد الصين أكبر دولة مصدرة فى العالم بقيمة 2.5 تريليون دولار، وقد سجلت فى عام 2019 فائضا تجاريا بلغ 422 مليار دولار، ويمثل إجمالى صادرات الصين أكثر من 17% من ناتجها المحلى الإجمالى، أما الولايات المتحدة فقد بلغت قيمة صادراتها فى ذات العام 1.65 تريليون دولار، تليها ألمانيا وقد بلغت قيمة صادراتها 1.33 تريليون دولار، ثم هولندا وقد بلغت قيمة صادراتها 709 مليارات دولار.
اللوجيستيات العالمية
وبذلك فقد فرضت المنافسة العالمية الضارية وعولمة الأسواق على المنتجين والمصدِّرين أن يقوموا بالتركيز على لوجستيات الإنتاج والنقل بهدف تدنية تكاليفها ورفع كفاءتها، ومن ثم إمكانية التسويق والبيع فى الأسواق العالمية بأسعار تنافسية، وعليه فإن وجود نظام مضمون وتنافسى للخدمات اللوجستية العالمية داخل الدولة يعد من أهم العوامل والتى تمثل فيها الموانئ البحرية حجر الزاوية، ويمكن له أن يخدم تنشيط الصادرات بفاعلية شديدة.
ولا شك أن نشاط التصدير يعد من أصعب الأنشطة فى مجال التجارة الدولية، لأن تنافسية البضائع الداخلة فى حركة التجارة الدولية يحكمها إلى حد كبير عدة عوامل يأتى فى مقدمتها تكاليف النقل والتوزيع وتشمل تكاليف عمليات النقل وتكلفة زمن النقل وأهمية عامل الوقت فى تسليم البضائع وسلامة البضائع وعوامل عدم التأكد.
وتمثل تكاليف الصادرات الداخلة فى حركة التجارة الدولية جزءا مهما من المعلومات المرتبطة بعملية المساومة والتفاوض، فالمصدر لكى يحافظ على القدرة التنافسية لمنتجاته فى الأسواق العالمية يجب أن يصل بمستوى التكاليف إلى أدنى مستوى ممكن، وعندئذ فقط سيمكنه تحقيق أرباح تتناسب مع قيمة بضائعه أمام البضائع المنافسة فى الأسواق العالمية.
الموانئ والصادرات واللوجيستيات
وبذلك يتضح أن أكثر الأمور ارتباطا بعملية التصدير الصعبة فى ظل المنافسة الضارية فى الأسواق العالمية ترتبط باللوجيستيات، والتى تتضمن تكامل جميع الأنشطة شاملة النقل وإدارة المخزونات والتعبئة والتغليف والعلامة التجارية والعمليات المصرفية والتأمينية والمستندية، وجميعها تصب فى النهاية فى تحسين مستوى الخدمة وتطويرها وزيادة الجودة وتدنية التكاليف، باعتبارها تحقق المرونة والسرعة والمصداقية فى ظل التغيرات المتعددة والمتلاحقة فى طلب الأسواق العالمية.
وهكذا يقوم نجاح الميناء على أساس توافر ميزة نسبية عالية إما فى الإنتاجية فى الخدمات المرتبطة بتداول البضائع أو توفير خدمات ذات قيمة مضافة عالية، مع تحقيق اقتصاديات الحجم الكبير، وكلما كان هناك توسعات فى البنية الأساسية للميناء وتنمية وتطوير وتحديث للمعدات المرتبطة بها كلما زادت أحجام ونوعيات السفن المترددة، وتعاظم دور الميناء فى حركة النقل والتجارة العالمية.
هنا يبرز الدور المهم والخطير للموانئ المصرية، والتى تمتلك مصر منها أكثر من 15 ميناء تجاريا بحريا على البحرين المتوسط والأحمر، وقناة السويس التى تعبرها 20% من حركة التجارة العالمية، فنجاح هذه الموانئ يتحدد وفق قدرتها على توفير خدمات عالية الإنتاجية والكفاءة فى تداول البضائع وتخزينها وتوفير قيمة مضافة عالية.
وهذا ما أدركته الدولة المصرية فحرصت على عمل توسعات غير مسبوقة فى البنية الأساسية والفوقية للموانئ المصرية، وانقضى ذلك الوقت الصعب الذى كان المصدرون فيه يعانون الأمرّين لتصدير بضائعهم إلى الأسواق العالمية، بعد أن أصبح التطوير المستمر فى الموانئ أمرا حتميا لتنمية التجارة الخارجية واجتذاب المزيد من سفن الشركات البحرية العالمية إلى الموانئ المصرية.
أيضا كان العمل على التوسع فى شبكات الطرق من وإلى الموانئ بربطها بالمناطق الصناعية المتاخمة واستكمال مراكز اللوجستيات من مستودعات ومناطق تجميع وتوزيع، حيث يعتبر تواجد محاور ربط سريعة وفاعلة وآمنة تربط الميناء بمختلف المناطق الصناعية والإنتاجية والمراكز السكانية من أهم العناصر لتطوير أعمال اللوجستيات.
التجارب العالمية
إن عجز الميزان التجارى لا يشكل فى حد ذاته مشكلة طالما عوض ذلك فائض فى ميزان الخدمات، وكذلك ميزان التحويلات الرأسمالية، وميزان الخدمات الذى يتضمن السياحة والتعليم والصحة والنقل، يشمل أيضا فى إطار النقل منظومة الخدمات اللوجيستية وما يرتبط بها من أنشطة مكملة وداعمة يمكن تنفيذها فى الموانئ المصرية، بحيث يمكن أن تحقق تدفقات دخل كبرى للاقتصاد المصرى.
واقتصاد دولة محدودة المساحة قليلة الموارد مثل سنغافورة، هو خير دليل على ذلك فقد حقق الاقتصاد السنغافورى من خلال التجارة الثنائية فى السلع والخدمات ما قدر بنسبة 320 % من الناتج المحلى الإجمالى لسنغافورة، وجزء كبير من هذا الرقم حققته تجارة المستودعات Entrepôt Trade وهو مصطلح يشير إلى أحد أنماط التجارة الدولية، حيث يتم استيراد السلع مؤقتا إلى دولة ما، ثم تتم إعادة تصديرها دون توزيع داخل الدولة المستوردة إلى دول أخرى، كجزء من سلسلة معقدة من خدمات التوزيع المادى العالمى، وبحيث يتم عليها عمليات ذات قيمة مضافة تزيد من قيمتها التسويقية، ويمكن أيضا أن يكتفى بالإبقاء فى المستودعات فقط ثم التوزيع.
لذلك فتجارة المستودعات هى انعكاس لمكانة سنغافورة كمركز تجارى عالمى إذ إن 55% من إجمالى صادرات البضائع فى 2020 كانت بضائع إعادة تصدير إلى جنوب شرق آسيا وأستراليا والشرق الأقصى والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، وقد حققت أعداد الحاويات المتداولة عبر ميناء سنغافورة 40 مليون حاوية أهّلتها لكى تكون الميناء الثانى فى العالم.
ومما يتيح عوامل التميز فى إسهام واستفادة ذلك البلد فى التجارة الدولية، هو أن إجراءاتها الجمركية رقمية بالكامل وتتم من خلال تريدنت Trade Net، أو النافذة الوطنية الموحدة، كما أن لديها منصة التجارة الشبكية NTP، وهى نظام جديد للتجارة والخدمات اللوجستية، يربط المشاركين والمتعاملين عبر سلسلة القيمة التجارية فى سنغافورة وخارجها، وبذلك يتم تشجيع صناعة الخدمات اللوجستية بالاعتماد أفضل الممارسات، وتطوير إرشادات أمان سلسلة التوريد العالمية وإنشاء منصة تكنولوجيا المعلومات على مستوى الصناعة.
وتتكامل مع هذه البيئة التجارية العالمية، بيئة استثمارية تتضمن عددا من الحوافز الضريبية وغير الضريبية لتحفيز وتشجيع المئات من الشركات العالمية التى تتخذ من سنغافورة مقرا لها، وتستهدف بعض الحوافز صناعات أو أنشطة محددة، مثل الخدمات المالية والسياحة والنقل والشحن والخدمات البحرية، وجميعها قد تكاملت معا لخدمة الاقتصاد والتنمية.
لقد كتب جمال حمدان يوما بأن مصر هى حجر الزاوية وهى مجمع القارات ومفرق البحار وملتقى الشرق والغرب، وقد باتت رؤيته أقرب إلى التحقق فى ظل التنمية المشهودة للطرق والموانئ والبنية الأساسية للبلاد، ونحن قريبون إلى ذلك، وسنصبح أقرب فأقرب لو تحققت جميع مقومات الدولة اللوجيستية.