عبّاد الذهب في القرن الجديد

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 20 يناير 2025 - 6:25 م بتوقيت القاهرة

بعنوان «عبّاد الذهب» كتب عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين مقالًا فى جريدة الجمهورية فى 11 أغسطس عام 1956، وقد ورد فيه: «تلك الحروب التى وضعت أوزارها منذ وقت قصير فى الهند الصينية لم تكن إلا عبادة وحشية لذلك الإله الوحشى، قرّب فيها الفرنسيون مئات الألوف من الآمنين الوادعين وأمثالهم من المغيرين المعتدين، ضحية لرأسمالهم ذلك الذى رمز لو «غوته» بالعجل الذهبى. (يقصد ما ورد على لسان الشيطان فى مسرحية فاوست رائعة «غوته») وأولئك الذين سفكت دماؤهم، وفرقت أشلاؤهم فى كوريا، من الكويين والأمريكيين والأوروبيين، لم يكونوا إلا قربانًا لرأس المال الأمريكى. ولو امتد العمر بعميد الأدب العربى لما بعد عام 1973 الذى وافته فيه المنية لعاين عجلًا ذهبيًا من نوع آخر فى حربى الخليج الأولى والثانية وغزو العراق وغيرها من صراعات حدودية وإقليمية، كان الذهب الأسود أو النفط سببًا فى إشعال نيرانها. ومنذ ذلك التاريخ ولم تخرج الحروب عن أهداف السيطرة على الموارد النادرة، وفى مقدمتها موارد الطاقة على اختلاف أنواعها.

وإذا اشتعلت الحروب فى القرون المقبلة لكانت الطاقة أهم أسلحتها وعجلها الذهبى، خاصة تلك التى يمكن استخدامها فى تحلية مياه البحر والسيطرة على مختلف ظواهر تغير المناخ بأقل تكلفة وبصفة مستدامة. كذلك وإن اتخذت الثروات زخرفها الأخير وتحوّلت إلى صورتها المثالية فى هيئة تراكم معرفى ناشئ عن رصيد كبير من البيانات والمعلومات، فإن المنافسة على تعدين تلك البيانات يعيد تشكيل وجه الكوكب. وإذا كان هناك نحو 5,5 مليار مستخدم للإنترنت فى العالم حتى أبريل 2024 بما يمثل أكثر من 67% من سكان العالم، فإن فجوة المعلومات تتسّع مع تعقّد بنية المعلومات، وزيادة الاعتماد عليها فى بناء وتراكم الثروات وإدارة الموارد، ومع حرمان أكثر من ثلث سكان العالم من الوصول إلى الإنترنت. ولهذا ولغيره من خصائص التراكم المعرفى ظهر مفهوم تعدين البيانات، فى تشبيه واضح للبيانات بالمعدن النفيس.

وتختلف خصائص البيانات عن الموارد الطبيعية الملموسة، إذ هى سلعة يمكن استخدامها من قبل العديد من المستهلكين فى ذات الوقت دون أن تنقص، ومن ثم فهى سلعة غير تنافسية فى الأساس، لكن تطور استخدام البيانات الضخمة وتطبيقات الذكاء الاصطناعى وغير ذلك من سمات التحول التقنى والمعلوماتى بدأت تغيّر فى تلك الخصائص، إذ لم يعد استغلالها على نحو اقتصادى متاحًا إلا لمن امتلك أسباب هذا الاستغلال، من طاقة وتراكم معرفى وقدرة على تعدين البيانات وتخليصها من الشوائب والضجيج غير المفيد، وتعزيز اقتصاديات الحجم لتلك السلعة الهامة.

• • •

تعدين البيانات هو عملية تحليل كميات هائلة من المعلومات والمجموعات البيانية، واستخراج (أو «تعدين») الذكاء المفيد لمساعدة المنظمات فى حل المشكلات، والتنبؤ بالاتجاهات، وتخفيف المخاطر، والعثور على فرص جديدة. يشبه تعدين البيانات التعدين الفعلى لأنه فى كلتا الحالين، يقوم المعدنون بفرز كميات ضخمة من المواد للعثور على الموارد والعناصر القيمة. يشمل تعدين البيانات أيضًا إنشاء العلاقات والعثور على الأنماط والشذوذ والارتباطات لمعالجة القضايا، وإنشاء معلومات قابلة للتنفيذ فى هذه العملية. تعدين البيانات هو عملية واسعة النطاق ومتنوعة تشمل العديد من المكونات المختلفة.

بدأت تقنيات تخزين البيانات، ذكاء الأعمال، والتحليلات فى الظهور فى أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضى، مما وفّر قدرة متزايدة على تحليل الكميات المتزايدة من البيانات التى كانت المنظمات تنشئها وتجمعها. كان مصطلح "تعدين البيانات" قيد الاستخدام بحلول عام 1995، عندما عقد المؤتمر الدولى الأول لاكتشاف المعرفة وتعدين البيانات فى مونتريال. تم رعاية الحدث من قبل جمعية تعزيز الذكاء الاصطناعى (AARI)، التى عقدت المؤتمر سنويًا للسنوات الثلاث التالية. منذ عام 1999، تم تنظيم المؤتمر -المعروف شعبيًا باسم KDD 2021- بشكل أساسى من قبل المجموعة الخاصة باكتشاف المعرفة وتعدين البيانات داخل جمعية الحوسبة الآلية.

بشكل عام، تأتى الفوائد التجارية لتعدين البيانات من القدرة المتزايدة على اكتشاف الأنماط المخفية، الاتجاهات، الارتباطات والشذوذ فى مجموعات البيانات. يمكن استخدام هذه المعلومات لتحسين اتخاذ القرارات الاقتصادية والتخطيط الاستراتيجى من خلال مزيج من التحليل التقليدى للبيانات والتحليلات التنبؤية.

وعلى مستوى التحليل الجزئى تشمل فوائد تعدين البيانات ما يلي:

1. تسويق ومبيعات أكثر فعالية: يساعد تعدين البيانات المسوّقين على فهم سلوك العملاء وتفضيلاتهم بشكل أفضل، مما يمّكنهم من إنشاء حملات تسويقية وإعلانية مستهدفة. وبالمثل، يمكن لفِرق المبيعات استخدام نتائج تعدين البيانات لتحسين معدلات تحوّل العملاء وبيع منتجات وخدمات إضافية للعملاء الحاليين.

2. خدمة عملاء أفضل: بفضل تعدين البيانات، يمكن للشركات تحديد مشكلات خدمة العملاء المحتملة بشكل أسرع وتزويد وكلاء مراكز الاتصال بمعلومات محدّثة لاستخدامها فى المكالمات والتواصل عبر الإنترنت مع العملاء.

3. تحسين إدارة سلسلة التوريد: يمكن للشركات اكتشاف اتجاهات السوق وتوقع الطلب على المنتجات بدقة أكبر، ما يمكّنها من إدارة مخزون السلع والإمدادات بشكل أفضل. يمكن لمديرى سلسلة التوريد أيضًا استخدام المعلومات من تعدين البيانات لتحسين عمليات التخزين والتوزيع واللوجستيات الأخرى.

4. زيادة وقت التشغيل الإنتاجي: يحسّن تعدين البيانات التشغيلية من كفاءة أجهزة الاستشعار على الآلات الصناعية والمعدات من خلال تطبيقات الصيانة التنبؤية، لتحديد المشكلات المحتملة قبل حدوثها، مما يساعد على تجنب التوقف غير المجدول.

• • •

فيما يلى بعض الأمثلة على استخدام تعدين البيانات فى الصناعات المختلفة:

1. التجزئة: يقوم تجار التجزئة عبر الإنترنت بتعدين بيانات العملاء وسجلات "النقرات" على الإنترنت لمساعدتهم فى استهداف حملات التسويق والإعلانات والعروض الترويجية للمشترين الأفراد. كما تدعم نماذج التنبؤ وتعدين البيانات محركات التوصية التى تقترح عمليات الشراء المحتملة لزوار المواقع، بالإضافة إلى أنشطة إدارة المخزون وسلسلة التوريد.

2. الخدمات المالية: تستخدم البنوك وشركات بطاقات الائتمان أدوات تعدين البيانات لبناء نماذج المخاطر المالية، واكتشاف المعاملات الاحتيالية، وفحص طلبات القروض والائتمان. يلعب تعدين البيانات أيضًا دورًا رئيسًا فى التسويق وتحديد فرص البيع الإضافى مع العملاء الحاليين.

3. التأمين: تعتمد شركات التأمين على تعدين البيانات للمساعدة فى تسعير وثائق التأمين واتخاذ قرارات الموافقة على طلبات الوثائق، بما فى ذلك نمذجة وإدارة المخاطر للعملاء المحتملين.

4. التصنيع: تشمل تطبيقات تعدين البيانات للمصنعين جهود تحسين وقت التشغيل والكفاءة التشغيلية فى مصانع الإنتاج، وأداء سلسلة التوريد، وسلامة المنتجات.

5. الترفيه: تقوم خدمات البث بتحليل ما يشاهده أو يستمع إليه المستخدمون وتقديم توصيات مخصصة بناء على عادات المشاهدة والاستماع للأشخاص.

6. الرعاية الصحية: يساعد تعدين البيانات الأطباء فى تشخيص الحالات الطبية، وعلاج المرضى، وتحليل الأشعة السينية ونتائج التصوير الطبى الأخرى. كما يعتمد البحث الطبى بشكل كبير على تعدين البيانات، والتعلم الآلى، وأشكال التحليل الأخرى.

• • •

تعتمد العملات الرقمية التى عرفها العالم حديثًا وراهن عليها العديد من المستثمرين والساسة (وفى مقدمتهم دونالد ترامب) على التعدين، والذى يعتمد بدوره على توافر الطاقة لتشغيل آلاف الخوادم لإنتاج وحدات من العملات المشفّرة، والتى ذكرت من قبل إنها كثيفة استهلاك الطاقة إلى الحد الذى يجعل تعدين عملة بيتكوين وحدها مساويًا فى استهلاكه من الطاقة إجمالى ما تستهلكه الأرجنتين من الكهرباء.

وعليه فإن حروب المعلومات لا تقتصر فقط على المنافسة على عمليات التعدين ومصادر الطاقة وامتلاك المعرفة والعقول النادرة.. بل تمتد أيضا إلى اختراق المعلومات والهجمات السيبرانية وتطوير الرقائق لتحسين توجيه الضربات العسكرية المادية.. إلى غير ذلك من آليات الهجوم التى تخسر الدول والمؤسسات على خلفيتها مليارات الدولارات التى قد لا تخسرها فى المعارك العسكرية التقليدية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved