عودة السياسة إلى مصر
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 20 فبراير 2016 - 10:30 م
بتوقيت القاهرة
بعد غياب المعارك السياسية أو تغييبها منذ يوليو ٢٠١٣ لصالح معارك وجودية صفرية غير سياسية، جاء العام الجديد حاملا بشرى عودة السياسة مرة أخرى إلى المشهد حتى ولو كانت هذه العودة مبدئية وغير مؤكدة. منذ عزل الرئيس السابق محمد مرسى عن حكم مصر وما تلى ذلك من طلبات للتفويض وفض للاعتصامات وعنف سياسى وعمليات إرهابية وحملات أمنية أممت السياسة تماما لصالح معارك «معنا أو معهم»، بعد أن انجر الجميع لمعارك (ثورة/انقلاب)، (شرعية/لا شرعية)، (إرهاب/وطن)، تم على إثرها تأميم خارطة الطريق وتفصيل نتائجها بعيدا عن أى منافسات تعددية سياسية حقيقية، عادت أخيرا معارك الحقوق والحريات، الدستور والقانون، الدولة والمجتمع، وفشلت محاولات البعض الالتفاف على هذه المعارك بضوضاء احتفاليات الأخلاق والضمير الوهمية والتى ليست أكثر من فقرة استعراضية فاشلة لتلميع الأوجه والشخصيات التى احترقت.
كان الأبرز قطعا «وقفة الأطباء» التى أعادت فكرة الحشد ودور النقابة مرة أخرى إلى المساحة العامة بعد شهور من التحريم، كما خاض أعضاء هيئة التدريس معركة أخرى للانتصار لحقوق إحدى عضواتها، الأستاذة خلود صابر، فى استكمال دراستها العليا فى الخارج بعد أن حاولت الجامعة استدعاءها مرة أخرى إلى أرض الوطن بعد اعتراض الأمن وهو ما كاد يتسبب فى تعطيل مستقبلها العلمى، كذلك كان هناك معركة أخرى لم تحسم بالضرورة ولكنها أجبرت المجتمع والسلطة على تغيير طريقة التعاطى التقليدى معها مثل موقف الألتراس ورد فعل رئاسة الجمهورية المختلف قليلا عن ردود الفعل التقليدية تجاه هذه الروابط الجماهيرية، أو الفيديو الأشهر لشادى وأحمد وفشل محاولات البعض لتحويله لمعركة أخلاقية والتصميم على رؤيته فى إطار ردود الفعل الشبابية فى ظل مجال عام مغلق، ودار فى نفس الأفق معركة التاكسى الأبيض ضد بعض الشركات الخاصة التى دخلت لتنافس فى هذا المجال، فضلا عن معركة أخرى تخوضها نقابة الصحفيين بخصوص الانتهاكات التى يتعرض لها أعضاؤها أثناء تأديتهم لوظائفهم.
***
يمكن تسجيل خمس ملاحظات رئيسية بخصوص هذه المعارك التى لم تحسم بالضرورة لصالح طرف أو آخر ولكنها حفرت مساحات للحركة فى المجال العام:
الملاحظة الأولى: أن هذه المعارك تحررت من العبء النفسى ليناير/يونيو، فلم تنشغل أصلا بطرح تلك الجدلية على الرأى العام، لم تهتم بتسجيل موقف لصالح يناير أو ضدها، لم تتحد شرعية النظام القائم، ولكنها وضعت النظام أمام مسئولياته، هناك دولة وهناك نظام يديرها بدستور وقانون، فأين حقوقنا؟ هكذا طرح الألتراس قضيتهم، وهكذا فعلت نقابة الأطباء والصحفيين، والشىء نفسه فعله أساتذة الجامعات، لا نريد سلب السلطة من شرعيتها ولكننا نريد حقوقنا التى هى جزء لا يتجزأ من تلك الشرعية التى تفرض على السلطة مجموعة من الالتزامات وفقا للدستور والقانون.
الملاحظة الثانية: أن هذه المعارك نجحت فى إعادة فئات جديدة مرة أخرى لحلبة السياسة ولو بشكل غير مباشر، فهؤلاء الذين وقعوا أسرى لمعارك الشرعية والانقلاب والقائد الملهم وحروب الأجيال وتسمروا فى مواقعهم، أو أولئك الذين وقعوا أسرى للهستيريا، ومعهم الذين ابتعدوا عن السياسية أثرا للسلامة، لأنهم لا يستطيعون تحمل أثمان صراعات عالية التكلفة، عادوا مرة أخرى لمعركة السياسة بوصفهم مواطنين يتصارعون على حقوق النقل والمواصلات والخدمات الطبية ويقفون ضد الانتهاكات الجسدية والنفسية للموظفين أثناء تأديتهم لأعمالهم. كانت هذه العودة شرطا ضروريا لتحرير السياسة فى مصر، لأن شعارات «المجد للثوار» أو «المجد لمناهضى الانقلاب» هى شعارات لشحذ همم «المختارين» والآخرين يخوضون معاركهم فى الملحميات الأسطورية أو فى السماء، أما على الأرض فيخوض المعارك بشر عاديون مشغولون بحقوقهم كمواطنين فى المقام الأول وهذا شرطا ضروريا لعودة السياسة إلى مصر.
الملاحظة الثالثة: أن بعض هذه المعارك كانت عرضية، فلم ينضم إليها فقط بعض الفئات التى قررت العودة إلى حلبة السياسة بعد طول غياب، ولكن انقسم عليها حتى التيارات الفكرية والسياسية التى كانت تأخذ مواقف بها قدر من التماسك مسبقا، ولعل حادثة فيديو شادى وأحمد، والوقفات الاحتجاجية للتاكسى الأبيض قد أججت الخلافات حتى بين أبناء التيار ذاته وهذه علامة إيجابية أخرى لكسر جمود المعارك الفكرى وتحويلها إلى معارك حياتية عادية ترتبط بحياة المواطن اليومية وهو ما يساهم أيضا فى تحريرها.
الملاحظة الرابعة: أن ردود فعل السلطة اختلفت قليلا عما سبق، فرئيس الجمهورية أعلن استعداده للتحاور مع شباب الألتراس رغم أن الأخيرين منعوتون رسميا «بالإرهاب»! كما أن الدكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة اتخذ قرارا موفقا، إيجابيا، واستجاب لمطالب الأساتذة باستمرار الأستاذة خلود صابر فى دراستها العلمية وهو موقف يحسب بالتأكيد لرئيس الجامعة وانتصاره لاستقلال الجامعات ونأمل أن يكون بداية لسلسلة إجراءات تؤكد هذا المعنى، كما أن ردود الفعل الرسمية تجاه وقفة نقابة الأطباء تحولت سريعا خلال يومين بين التحريض والتشويه والتهديد والتبرير إلى الاستعداد للحوار والتأكيد على المحاسبة. صحيح أن الخبرات السابقة علمتنا أن نتأنى قبل أن نعتبر أن هذه الردود تعبر عن تغيير حقيقى فى التوجهات والسياسات، ولكنها تظل هامة لأنها تشير إلى أن الرسائل على الأقل تصل، فهل تترجم؟
الملاحظة الخامسة والأخيرة: أن هذه المعارك جميعها أعادت قضية علاقة المجتمع بالدولة مرة أخرى للأضواء، وتشير بوضوح أن محاولة تأميم السياسة فى دولة مليئة بالفواتير غير المسددة مثل مصر سيكون دائما مصيرها الفشل، عودة النقابات (الصحفيين ــ الأطباء)، وتجمعات أعضاء هيئة التدريس (٩ مارس)، والروابط الجماهيرية (الألتراس)، رغم التباين الواضح بينهم من حيث الهيكل والوظائف، تشير إلى حقيقة أن السياسة تعود، الحنكة التى تتصرف بها هذه التنظيمات جميعا بما فيها الألتراس (راجع بيانهم ردا على دعوة الحوار التى وجهتها إليهم السلطة)، تشير أن مرحلة فانتازيا الثورة وتلميع نجوم الحراك وتحويلهم إلى أولياء صالحين أو قديسين وملهمين، ربما يتم تخطيها قريبا لصالح العمل الجماعى المسئول والمنظم، الذى يعرف هدفه ويعرف كيف يخاطب جماهيره دون التورط فى اتخاذ مواقف عنترية أو بطولية أو غير ضرورية.
***
التبسيط المخل لمشاكل مصر ومحاولة حصرها فى ثنائيات جامدة أو تحويلها لصراعات صفرية سيفشل فى كل الأحوال، محاولة تأميم السياسة لن تكلل بالنجاح، محاولة استخدام الوجوه القديمة لإحياء وتأجيج حنين المواطنين تجاه الماضى المستقر هى بمثابة مضيعة للوقت والجهد، أما محاولة استخدام وجوه جديدة لإعادة تدوير رسائل سياسية قديمة، ففرص فشله أكبر بكثير من فرص نجاحه.
يقول البعض إن مصر أكبر من أن تنهار، وأقول ربما كان ذلك صحيحا، لكنها فى الوقت نفسه أثقل وأعقد من أن تدار بالسياسات والتوجهات الحالية، بدون كتابة عقد جديد بين المجتمع والدولة، إعادة الاعتبار إلى الدستور والقانون ودورهما فى إدارة المجتمع، إعادة رسم خارطة الطريق بإجراءات مختلفة وسياسات تسعى إلى تحرير السياسية من قبضة السلطة، إعلاء قيم المحاسبة والمسئولية، سيكون من الصعب جدا توقع استقرار حقيقى فى مصر.
الكرة الآن فى ملعب السلطة، لا فى ملعب الخارج ولا فى ملعب المعارضة ولا فى ملعب النشطاء، لو أرادت السلطة لأعادت رسم كل الأدوار والسياسات نحو قواعد لعب مختلفة، أما لو صممت على قواعد اللعب الحالية فسيكون من المستحيل أخذ أى فرضية عن التغيير والإصلاح بجدية، المعارك سالفة الذكر بالإضافة إلى أحداث التجمهر أمام مديرية أمن القاهرة من المواطنين الغاضبين بسبب الانتهاكات الأمنية تبعث برسائل كثيرة ومتشعبة، أقلها أن بديل السياسة هو العنف، لكن هذه المرة لن يكون العنف مصنف، لن يكون بين إرهابيين ووطنيين، ولكنه سيكون عنفا عشوائيا ردا على تجاهل مبادئ المحاسبة والعدالة، فمن يستقبل هذه الرسائل وكيف يعيد إرسالها؟
مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة