حول مجموعة.. لا أسمع صوتي

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 20 فبراير 2025 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

قبل أسبوعين كتبتُ عن إحدى الروايات التي وصلَت إلى القائمة القصيرة في مسابقة ساويرس- فرع الأدباء الشبّان. وفي هذا المقال أستعرض مجموعة قصصية وصلَت هي الأخرى للقائمة القصيرة بنفس المسابقة، وهي للكاتبة تيسير النجّار وتحمل عنوان "لا أسمع صوتي"، وصدرَت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في عام ٢٠٢٣. تتضمّن المجموعة ست عشرة قصة قصيرة، لو أردنا البحث عن التيمة المشتركة بينها جميعًا لقلنا إنها التهميش، وهي تيمة تكرّرت في أكثر من عمل للكاتبة، ومن ذلك مجموعتها القصصية التي جاءت تحت عنوان "خلف الباب المغلق" وهي في ما أظن بوابتها الأولى إلى عالم الكتابة والأدب. ففي مجموعة "لا أسمع صوتي" نجد أنفسنا إزاء ست عشرة بطلة غالبًا من ساكنات الريف والمحافظات النائية، كلهن غير مرئيات في دوائرهن الصغيرة والكبيرة.. لا أحد يشعر بهن ولا أحد يتعاطف معهن، أكثرهن مطلّقات من أزواج هم في الأصل مطلقون وأرامل وأحيانًا آباء لأولاد وبنات. تصف إحداهن حياتها التي لا يهتم بها أحد بأنها ما هي "سوى بصقة"، وتصف أخرى حياتها بأنها مثل طاولة مكسورة الرِجل في مكانٍ منسيٍ بإحدى الكافيتريات.
• • •
تأخذك المجموعة إلى عوالم النساء المهمشّات مع اختلاف مصادر التهميش، فهذه فتاة في قصة "داليدا" أحبت شابًا لم توافق عليه أسرتها لأنه هلفوت ولأن أجداده وأجدادها كانوا على خلاف، فتبكي وتصرخ ولا يبالي بها أحد، وفي الأخير تتزوّج شابًا ميسورًا يظن أنها لازالت تحّب فتاها الأول فيجتنبها ويجافيها. فتاة أخرى في قصة "العودة إلى البيت" تعيش مع أبويها المسنيّن وتتضخّم مشاعر غربتها بفعل الفارق العمري الكبير بينها وبينهما، فلا هي اختارت ألوان جدران المنزل، ولا وسعها يومًا أن ترفع صوتها أو تشاهد البرامج التي تحبها، وحين تقرّر القفز من السفينة وتتزوّج زواج صالونات تُفاجأ بأن زوجها المطلّق يطلب منها العيش في بيت الزوجية الأول فتطلب الطلاق وتهرب من بيت لا يشبهها لتعود إلى سجنٍ مقنّنٍ لم يكن يشبهها. فتاة ثالثة في قصة "لقاء" تتعلّق برجل يقترب من سن المعاش لأنه الوحيد الذي يسحب لها الكرسي لتجلس، ويسألها عن نوع العصير الذي تحبه، ويستأذنها قبل أن يدخّن، وما سألها أحدُ من قبل عن رأيها في أي شئ. فتاة رابعة في "القصة" أحبّت كاتبًا كبيرًا وصوّر لها وهمها أن إحدى الحكايات في مجموعته القصصية كُتبت لأجلها، وحين تسأله عما تتصوّره يجيبها- بلا مبالاة كأن وجودها لا يعنيه في شئ- "اعتبريها ليكي لو دا يفرحك". أما أكثر الفتيات بؤسًا فكانت بطلة قصة "بقع حمراء مخيفة" عن مرحلة البلوغ التي تفاجئ صاحبتها دون أن تقدّم لها الأم المحافظة حدًا أدنى من الاهتمام بمعاناتها وارتباكها ودهشتها.. بل تتركها لنفسها ولنفسها فقط، فإذا بهذه الفتاة البائسة حين تفاجئها دورتها الشهرية وهي في رحلة مدرسية لجزيرة النباتات تتسلَل إلى المسجد وتسرق سجادته الصغيرة المنقوشة وتصنع منها قطع قماش توقف بها نزيفها الدامي. ومع أنه جرت العادة أن تكون القصة التي تحمل المجموعة عنوانها هي درّة العمل، إلا أنني لا أعتبرها كذلك في مجموعة تيسير النجّار فقصة "لا أسمع صوتي" قصة عادية تدور حول فتاة لا تعرف بالضبط ماذا تريد إلى أن يلفتها لذلك طبيبها النفسي. أما "بقع حمراء مخيفة" فهي على بساطتها وإيلامها وقسوتها تبدو لي أنها الأروع، وفيها تفسّر الكاتبة الاضطراب الذي يعتري الفتيات مع نزيفهن الشهري تفسيرًا غير تقليدي، فتعزوه تارةً إلى شعورهن بالحسرة لفقدان طفلٍ كان يمكن أن يتشكّل ويولد، وتعزوه تارةً أخرى إلى انسياب بعضٍ من دماء النساء إلى صندوق القمامة.
• • •
هكذا هن بطلات المجموعة القصصية "لا أسمع صوتي" مسحوقات بفعل سطوة العادات والتقاليد في مجتمعاتهن الريفية، كأنهن السراب في هذه المجتمعات التي لا ترى فيهن إلا الدنس. ورغم أن معظم هؤلاء البطلات استسلمن لهذا الواقع الظالم، إلا أن الكاتبة أتاحت للبعض منهن أن تتمرد على ظروفها. بدا هذا التمرد في حدّه الأدنى في قصة "أصفر داكن" مع تلك الأم التي انفصلَت عن زوجها الغليظ بعدما اقتحمها يوم زفافها كثور وعاش معها غير عابئ بها، فإذا هي تُسكت صوت الأنثى فيها وتتفرّغ لرعاية ابنتها، حتى إذا أتى يوم قررت أن تكافئ نفسها فصنعَت عجينة صفراء داكنة اللون ومضت تنظّف بها جلدها وتعيد إليه نعومته، كما قررَت أن تكافئ ابنتها فاشترت لها البيتزا التي تحبها. بالمناسبة هذه التصرفات التعويضية رغم بساطتها قادرة على فتح الشهية وتغيير المود. وقد يكون التمرد مجرد فعل سلبي في قصة "كما لا يليق بعشيقة" مع تلك الفتاة التي توهّمت أن الجنود يطرقون الباب ليداهموا خلوتها مع عشيقها ويقتادونهما معًا إلى قسم الشرطة- فإذا بها تأخذ ذيلها في أسنانها وتقول يا فكيك، مع أن الطارق الفعلي لم يكن سوى الزبّال. وفي قصة "الانفجار بالألفاظ البذيئة" حاولَت البطلة التعبير عن ظلمها بسيل بذئ من الكلمات على فيسبوك، لكنها عادت وتراجعَت. أما أكثر أنواع التمرد إيجابية وقوة في مجموعة تيسير النجّار فبدت لنا في ثلاث قصص: الأولى قصة "يجب أن أقتل أمينة"، عندما قررَت البطلة أن تتخلّص من شخصية أمينة زوجة سي السيد التي تسكنها، وترفض مواصلة الخنوع بعد أن تركَت العالم كله لأجل زوجها فما زاده ذلك إلا تجبّرًا. والثانية في قصة "كومبارس" عندما أتى تمرد البطلة قويًا وفوريًا وحاسمًا بأن قرّرَت فكّ ارتباطها بزوج أختها المتوفاة حين ناداها باسم أختها. والثالثة قصة "الوريثة" عندما تقمصّت البطلة شخصية والدها الشيخ الميرغني الذي كان يصنع الأحجبة ويفكّ السحر والعمل الخبيث، فراحت تبيع الهواء للزبائن وتكتب لهم قصصًا من وحي خيالها في داخل الأحجبة، ومع ذلك تغنّى الكل بمعجزاتها وذاع صيتها وتزوجّت أغنى أغنياء القرية. وبذلك تحوّلت من فتاة لم تكمل تعليمها ويخفيها أبوها عن العيون، إلى وليّة من أولياء الله الصالحين.
• • •
إن مجموعة "لا أسمع صوتي" عمل مكتوب بحرفية عالية، توّحدّت فيه الكاتبة مع بطلاتها، ونجحَت في نقل معاناتهن للقرّاء وجعلَتهم يستحضرون النماذج المشابهة لهؤلاء النساء في حياتهم اليومية. وعلى المستوى الشخصي أكاد أقول إنني بعدما فرغت من قراءة المجموعة القصصية داخلني شعور حقيقي بأنني صرت أسمع أصوات بطلات تيسير النجّار بالقوة الممكنة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved