الصورة وأحوالها قبل أن تدمرنا

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الخميس 20 فبراير 2025 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب المغربى سليمان الحقيوى، يقول فيه إن انتشار الهواتف الذكية بشكل واسع فى أيدى الأفراد يثير العديد من الأسئلة الأخلاقية، ويحول كاميرا الهاتف لسلاح ذى حدين قد يستخدم لغرض نبيل أو خبيث.. نعرض من المقال ما يلى:
قبل التقاطك للصورة هل فكرت فى مساعدة الطفلة؟ هل قدّمت لها طعاما أو ماء؟ هل منعت عنها الخطر؟ هكذا توجّهت صحفية شابة بغضب وهى تسأل الصحفى كيفين كارتر، الذى التقط إحدى أشهر الصور فى التاريخ فى العام 1993 فى قرية أيود جنوب السودان؛ الصورة التى تُظهر طفلة صغيرة أنهكها التعب والجوع قَبل أن تَصل إلى غايتها، وخلفها مباشرة يَقف نسر ينتظر أن تسقط كليّا، أن تموت حتى تصير طعاما له.
فى الوقت الذى التقط فيه «كيفن كارتر» صورته الشهيرة، أى فى بداية التسعينيات من القرن الفائت، كان استخدام الكاميرا حكرا على الصحفيين وبعض هواة التصوير، هذا يعنى عددا أقل من الكاميرات المُستعملة فى العالم. أما اليوم فمع طفرة التكنولوجيا والانتشار الواسع للهواتف الذكية بالكاميرا وتنافسها فى جودة الكاميرات وسهولة استخدامها، أصبح بإمكان الجميع توظيف هذه الآلة السحرية.
هذا يدفعنا إلى التساؤل اليوم، هل أصبح للسؤال الأخلاقى السابق الذى واجهه الصحفى «كيفن كارتر» المعنى نفسه؟ أى هل نفكّر قَبل أن نتّخذ من موضوعٍ ما صورا نلتقطها، ننشرها ونعلق عليها؟ الأكيد أن هذا التفكير فى الجانب الأخلاقى للصورة تلاشى مع مرور الزمن واختلط فيه الجانب الأخلاقى بجانب الحرية ولم يعُد تقنينه أمرا سهلا. ملايين الصور والفيديوهات تتمّ مشاركتها كل ساعة، وكل يوم، تعرض خصوصيات الناس: مواقفهم، سلوكياتهم، مآسيهم، عذابهم، أفراحهم، أخطاؤهم ونجاحاتهم.
• • •
فى الماضى القريب كانت الكاميرا تُشبه بالسلاح، هذا تشبيه غريب! لكن فى زوايا ما، أصبحت الكاميرا مثل السلاح فى يد البعض، وفى دائرة التشبيه السابق نفسه كانت ولا تزال السينما الأجنبية، وخصوصا الأمريكية، تواجه سيلا كبيرا من النقد كونها تتجاوز الفن أحيانا لتَسقط فى المحمول الأيديولوجى الموجه. هذا كلام صحيح لا يمكن أن ينكره أحد، لكن فى حالات محصورة، لكن لا يمكن تعميمه كذلك. فالكاميرا كانت فى هذا الماضى حكرا على من يستطيع التواصل من خلاله وتحويلها إلى صناعة. لكن اليوم مع استحضار الرقم المهول 6.5 مليار كاميرا هاتف محمول ألا يُمكن أن نقول: إنه صار كل مَن يتناول موضوعا تناولا غير برىء ينطبق عليه الحكم السابق؟
بالعودة مجددا إلى حالة «كيفن كارتر» الذى أثار سخط الناس عندما شاهدوا موضوع صورته الصادم، هذا الشعور الطارئ مع الكاميرا الذى كان محصورا قبل عقديْن، صار الآن شعورا كونيا، صار شعورُ مَن يحمل كاميرا، صار شعور 6.5 مليار إنسان، الموضوع بالنسبة إليهم أهم من أى شعور أو إحساس. وقد ظهرت ملايين الصور التى تنقل لنا كيف صار الإنسان يفكّر فى نقْل الموضوع قَبل أن يفكّر فى أى شىء آخر، صار شعورا غريزيا، اليد موضوعة على زر الهاتف تنتظر الضغط، مثل المسدس؛ وهذا التفكير حلّ بدلا من مشاعر إنسانية كالتفكير فى تقديم المساعدة مثلا، مع أن حالات إنسانية كثيرة كانت رهنا بهذه المساعدة! لكن من حضر من الناس فضل تخليد المشهد على تقديم مساعدة، فتخليد موضوع ما صار تفكيرا غريزيّا لدى حامل الكاميرا.
وهنا تأتى صورة أخرى لا تقل شهرة عن صورة كارتر، هى صورة عكسية تماما تفضح ممارسات المصورين، إنها صورة المصوّر السويدى «بول هنسن» وعنوانها «جثة و14 مصوّرا»، عندما التقط صورة لجثة سيدة محاطة بأربعة عشر مصوّرا يلتقطون صورا لها عقب زلزال هايتى فى العام 2010، الصورة التى فضحتِ الإحساس الجديد، إحساس تخليد اللقطة وإهمال شعور الإنسان! فالمصوّر هنا لم يتوجه كغيره إلى الموضوع الأول، أى الجثة، بل صور رفاقه وهم منقضون على جثة فى حالة تشبه انقضاض قطيع ذئاب على فريسة لا تملك قوة! وهذه الصورة هى فى الحقيقة نموذج لنمط آخر عكسى يقوم به مصورون آخرون يفضحون الإحساس الجديد وينتصرون لشعور الإنسان الطبيعى.
• • •
عبر تاريخ الإنسان على الأرض لم يحدث أن عاش عصرا مثل الذى يعيشه الآن والذى سيعيشه مستقبلاً فى مناح كثيرة، والصورة فى سياق هذا التطور استطاعت أن تُغيّر من حياة الناس وذاكرتهم. كتبٌ كثيرة دوِّنت، وتناقلت الأجيال الأخبار والتجارب. لكن التاريخ يبقى تاريخا تحكّمت فيه المصالح والعداوات والحروب، والمُنتصر يسجّل ما يشاء. هذه القاعدة تستمر الآن، لكن بطرق مختلفة. الصورة الآن صارت تكتب التاريخ. وحتّى قبل اختراع التصوير كان هناك اعتراف كَوْنى بتفوّق الصورة؛ هذا ما تؤكده مجموعة من الأمثال والعبارات المأثورة لعل أبرزها ما قاله كونفوشيوس: «الصورة خير من ألف كلمة»، أو ما نلمس فى مقولة: «ليس مَن رأى كمَن سمع»، فعل الرؤية هنا حاسم وصادق، ليس كفعل السمع. الصورة تبعاً لذلك ارتبطت بالتصديق، لكن هل الصورة صادقة؟
الصورة عندما اقتحمت خطابَ الإعلام واندمجت مع آليّاته واستعارت الحركة من السينما وعلوم الاتّصال صارت تمتلك طُرقَها لإقناع الجماهير بما تريد ووقت ما تريد. وهذا ما فتحَ آفاقا كبيرة أمام الصورة لتزييف الخبر أيضا، ولأن تؤثّر فى عقول الناس وتدفعهم للاقتناع بتبنى أفكار، وتغيير مواقف وقبول مواقف كانت مناقضة لها. الصورة الآن تتحكّم فيها المصالح. ومَن يمتلك الصورة يمتلك الحاضر والمستقبل.
• • •
هل إن العالم الذى تعرضه مقاطع فيديو، بغض النظر عن موضوعه، حتى إذا ما افترضنا أنه يعرض حديقة وسط مدينة، يقدم الحقيقة؟ الحقيقة هى ما تراه العين بشكل مباشر وعينى وآنٍ. أما ما يعرضه الفيديو فهو اجتزاء للحقيقة وقبض على جانب منها فى زمان ما ومكان ما.
الحقيقة الغائبة التى يعرضها فيديو تصير أكثر غيابا مع الصورة الثابتة. كون الصورة هى اجتزاء أدق وأكثر توجيها وتحكما، إضافة إلى قدرة برامج التعديل على تغيير الموضوع والسياق. واليوم كما نلاحظ صارت اللقطة غاية لدى كل مَن يحمل كاميرا، بغض النظر عن كل الحقيقة التى صارت غائبة عن أغلب ما نراه من صور.
أخيرا، وقبل عقدين، كان المشتغلون فى حقل الصورة يتبنون شعار إننا نعيش عصر الصورة، ونتواصل بواسطتها، لكن ما حمله الواقع الجديد يفوق بكثير ما كان يعتقده الجميع. هذا المجال طرح الكثير من الأسئلة التى تتجدد باستمرار. الآن لم يعُد السؤال متعلقا بالتواصل بواسطة الصورة فقط، بل بالكلفة الأخلاقية لهذا التواصل.
النص الأصلى:

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved