كل بيت له راجل
محمود قاسم
آخر تحديث:
الجمعة 20 مارس 2020 - 10:25 م
بتوقيت القاهرة
قبل أن نتحدث عن الفيلم يجب التوقف عند العبارة التى قالها رجل فى أحد الأحياء الشعبية لجاره ساعى البريد: بكره يخترعوا اللاسلكى والجوابات تبقى ببلاش.
حدث هذا عام 1949 فى فيلم «كل بيت له راجل» اخراج أحمد كامل مرسى، بطولة أمينة رزق ومحمود المليجي وفاتن حمامة، والحقيقة أننى لوهلة صغيرة قررت أن أتخلى عن جميع الأفكار «المجعلصة» التى اكتبها وأخاطب بها القراء وأؤمن بالسينما التربوية الأخلاقية التى تناشد مخاطبة مجتمع لديه الكثير من التربية السليمة، واحترام مقدسات الاسرة والمجتمع. هذه السينما كان يؤمن بها بقوة المخرج أحمد كامل مرسى، وتدور جميع أفلامه فى هذا الحيز الاجتماعى داخل مشاكل الاسرة التى هى الأصعب بالنسبة لنا، وهى السينما التى قدمها دوما كل من حسين صدقى، وحسن الامام، وابراهيم عمارة، مع الاختلاف حول ثقافة كل منهم فقد كان مرسى فى حياته الخاصة مثقفا كبيرا، قارئا نهما، وكانت لافلامه لها نكهة خاصة، تدور فى محيط البيت، حتى وإن وقع الأب فى غرام راقصة، وفى فيلم اليوم كان السؤال هو: ماذا تفعل الأم لو اكتشفت أن ابنتها الوحيدة مغرمة بالرجل الذى أحبته واستعدت للزواج منه، هل تضحى من أجل ابنتها وتزوجه اياها ويصبح الحبيب هو زوج الأم، وماذا يكون تصرف المرأة الأكثر نضجا وحبا؟
هذا الموضوع تكرر كثيرا فى السينما المصرية، وقد شاهدناه بصورة مشابهة فى فيلم «شرف البنت» بطولة شادية واخراج حلمى رفلة 1953 ثم قدمه فطين عبدالوهاب فى «خطيب ماما»، أى اننا مجددا أمام افلام تكرر نفسها، وإن كانت قصة «كل بيت له راجل» لم تتطرق إلى مسالة الابنة التى تشك أمها وحبيب الأم انها وقعت فى المحظور مع رجل غريب، وبدا السيناريو الذى كتبه المخرج وقد انتقى نماذجه بشكل مشرف جدا، وصاروا يتصرفون بنبل ملحوظ، فالأم أمينة زوجة فاضلة ظلت بالغة الوفاء لزوجها الراحل وتحتفظ بمكتبته العلمية التى تهتم بها ابنته الوحيدة فاتن وتستغلها فى القراءة، ومن هنا جاء الاعجاب او الحب المزدوج الذى أحست به المرأة وابنتها تجاه الصديق القديم للزوج، الذى يظهر بعد سنوات، ويأتى طالبا استعارة بعض المراجع التى تهمه، فترى كل واحدة أنه الرجل المنشود، وربما صورة من الأب ــ الزوج الراحل، فتقع كل منهما فى الاعجاب به ويتحول الاهتمام إلى حب جارف يسبب الأزمة.
اول ما يقابلك فى عناوين الفيلم هو اسم المنتج أو «أفلام مجدى فريد»، وسوف نكتشف انه ايضا مؤلف القصة، باعتبار ان المخرج هو كاتب السيناريو، وفى العناوين أيضا أنه من صمم المناظر والاثاث تحت اسم المعماري، وكما نلاحظ فإنه أسس شركة انتاج، ولا أعتقد أنه خاض التجربة مجددا، كما أن هناك اسما يلفت الأنظار هو وجيه عزت الذى نقرأ اسمه كممثل يسبق الكثير من نجوم الصف الثانى، ما يعكس أحوال الانتاج فى تلك الفترة، فنحن امام مهندس معمارى يعمل بشكل عابر فى السينما، كما أننا أمام نص يلفت الانتباه، فهناك رجل البيت الراحل الحاضر دوما فى المكان وساكنيه يتكلم عن أحوال البيت بعد رحيله، ابنته هى فاتن، وزوجته أمينة، والموسيقى الكلاسيكية تسود فى المنزل، وفاتن لا تتوقف عن العزف. هذا الرجل ترك البيانو، وايضا مكتبة ضخمة، جعلت صديقه القريب محمود يطلب الحضور إلى البيت، بعد عشرين عاما من الوفاة، لمراجعة بعض الكتب، بما يعنى أننا امام عالم الطبقة الراقية المثقفة، الذين يعيشون فى برج عاجى، وسوف تتنافس الاثنتان على الرجل الذى ياتى إلى البيت: شابة صغيرة تتصرف كأنها امرأة ناضجة، وأم تتمنى لابنتها أن تكون أكثر بهجة واستمتاعا بالحياة، هناك حالة من الانزعاح تنتاب فاتن خشية على مكتبة أبيها، بالطبع نحن الآن نفتقد مثل هذه الأجواء التى يعكسها الفيلم الذى يخلو بالتقريب من الصراع بين الأخيار والأشرار داخل البيت، فترى من سيفوز بالرجل. هل الأم التى تجاوزت محطة منتصف العمر، أم الابنة التى تقف الحياة أمامها مفتوحة؟
سوف نرى أن الفيلم يضع بطله الرئيس خلف قناع لم نعتد عليه، وهو محمود المليحي، فهو المثقف العاشق، الإنسان بالغ الرقى والجاذبية، وهو يحمل أيضا اسمه الحقيقى فى الفيلم، لذا فأنا شديد الحماس للعمل، فالأبطال هنا حصلوا على أكبر قدر من الثقافة والعلم، الزوجة تتقن العديد من اللغات، وتقرأ بها: مثل الانجليزية والفرنسية والالمانية والفارسية وتذهب مع صديق زوجها إلى محاضرة جادة لا تذهب اليها نساؤنا، كما أنها نافست زوجها فى قراءة الكتب الثقافية، بالاضافة إلى استيعاب الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، ولذا فإنه من الاهمية أن نعلن الأعجاب بهذا النوع من النساء، وكم نفتقد إلى هذه النموذج
من المهم الآن نلاحظ اننا فى عام 1949، وهى السنة التى تم فيها عرض الفيلم المختلف فى الرؤية «الأفوكاتو مديحة» ليوسف وهبى الذى نادى ان تغلق المحامية مكتبها وتتزوج من ابن عمها الجاهل،
اما الشاب وجيه عزت، واسمه أيضا وجيه، فهو عائد لتوه من أوروبا بعد حصوله على درجة الدكتوراه، وهو يؤمن جدا بالفقراء وامتلاك الأرض الزراعية، كما أنه يحلم بتحويل الصحراء إلى أرض زراعية، وبالفعل فإنه يشرع فى تنفيد المشروع، الذى يتحمس له محمود كثيرا، أما الفلاحون الكسالى فإنهم لا يؤمنون بمثل هذه الأفكار، ويسخرون منها، هؤلاء الفلاحون الذين حصلوا على الأرض الزراعية وقاموا باعادتها إلى أرض بور، هذا الشاب سيقع فى حب فاتن ويتزوجها، بما يعنى أن الفيلم لم يقترب قط من العلاقات الشائكة التى كانت تملأ الافلام فى تلك الفترة، وأقصد قصص الحب بين أغنياء وفقراء، وتعالوا نقف معا عند كلام الأم حول المحاضر محمود فى محاضرته، فهو نوع من البطل المنشود؛
إذ سرعان ما ستقع الأم وابنتها فى غرام الرجل، وهو يتكلم عما يضمه ديوان عمر الخيام من جمال الروح وبهجة الحياة، أليس من الجميل أن يكون مثل هؤلاء الأشخاص على الشاشة، وأن نشاهدهم حولنا.
من حسنات الفيلم أيضا أنه يعطيك الاحساس أنك ذاهب لحضور أمسية موسيقية تتضمن اجمل المعزوفات الكلاسيكية البارزة، باعتبار أن الابنة فاتن تعزف أغلب الألحان على البيانو الذى يبدو أكثر نقاء، قياسا إلى الأورج الذى سيطر على حياتنا طوال نصف قرن واستعذبناه، واعتدنا للأسف عليه بديلا، وبالتالى فإن مشاهدة الفيلم كانت كفيلة بتغيير الكثير من المفاهيم، واستعادة معانى أكثر اتساعا حول ما يسمى بالسينما النظيفة والتى اعتبرت أنها خالية من القبلات بينما تمتلئ بالكثير من البذاءات، فما أجمل البيانو بموسيقاه..
وتحية إلى روح أحمد كامل مرسى..