سليمان العطار.. رحيق الثقافة الأندلسية
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 20 مارس 2020 - 9:50 م
بتوقيت القاهرة
ــ1ــ
لا أتصور أننى أرثيه بهذه الكلمات، وقد كان ملء السمع والبصر موفور النشاط والحيوية، رغم مرضه، وكان تفاعله الصادق مع تلامذته ومريديه على «فيسبوك» يعم الكبير والصغير... على مدى سنوات طويلة، وأنا أعتبر نفسى من محبيه وعارفى فضله، ومن تتلمذوا عليه، إنسانيا ومعرفيا، طوال فترة دراستهم بالجامعة، وحتى ما بعد التخرج..
ــ2ــ
كان الأستاذ الدكتور سليمان العطار، الذى فارقنا مساء الخميس قبل الماضى عن خمسة وسبعين عاما، أحدَ أعلام دراسة الأدب الأندلسى، والأدب المقارن، والدراسات الأسلوبية، ليس فى جامعة القاهرة فقط، بل فى الجامعات الإسبانية، وجامعات أمريكا اللاتينية.
شهرة سليمان العطار؛ لم يكن مردها أستاذيته الجامعية الوارفة فحسب، ولا نشاطه التدريسى الذى لم ينقطع عنه لحظة واحدة حتى وفاته؛ بل كانت تعود إلى مظلة إنسانية ومعرفية وثقافية واسعة؛ راوحت بين المساهمة فى تكوين أجيال وأجيال من المثقفين المصريين والعرب الذين تتلمذوا على يديه، وبين كتاباتٍ ومؤلفات أظنها ستبقى من بين الأهم والأجدر بالبقاء فى المكتبة العربية؛ خاصة فى مجالات التراث العربى، والأدب الأندلسى، والشعر العربى القديم، والتصوف، والثقافة الشعبية، وبين ترجماتٍ منتقاة لعيون وروائع الأدب الإسبانى، وأدب أمريكا اللاتينية؛ وقد كان العطار سبَاقا إلى التعريف بأبرزها والكتابة عنها ونقلها إلى العربية.
صاحب الدراسات والكتب المرجعية؛ مثل «نشأة الموشحات الأندلسية»، و«الخيال والشعر فى تصوف الأندلس» و«شعر الطبيعة فى الأدب الأندلسى» و«الخيال عند محيى الدين بن عربى» و«مقدمة لدراسة الأدب العربى»، و«الموتيف ونشأة الثقافة الشعبية».. وصاحب الترجمات السباقة والتعريف بقمم الأدب الناطق بالإسبانية؛ «مائة عام من العزلة»، و«خبر اختطاف» لماركيز، و«خلية النحل طرق ضالة» لكاميلو خوسيه ثيلا، وغيرها من الكتب والترجمات المعتبرة التى تشهد بعلمه، ووافر معرفته، ورسوخ قدمه فى هذه التخصصات.
ــ3ــ
كان رحمه الله حالة خاصة جدا بين أساتذة الجامعة الكبار، وبخاصة بين أساتذة قسم اللغة العربية وآدابها، القسم الذى تشرفتُ بالانتساب إليه والتتلمذ على يد أعلامه الكبار.
كنتُ وما زلتُ أصفه بـ«الأستاذ الفريد»، كان نسيجا وحده، فى سمته وهدوئه، فى نبرة صوته المميزة، وحديثه المقتضب، وسخريته المحببة فى أدائه أثناء المحاضرة، وما يتكشف لنا من غزارة ووفرة المعرفة والثقافة، شىء مذهل، كان يبدو للوهلة الأولى وكأنه لا يتكلم ولن يتكلم أبدا، ثم نُفاجأ بأننا أمام «كنز» إنسانى ومعرفى حقيقة لا مجازا، يحاضرنا العطار بمزاج فنان، تشعر بأنه يؤدى عرضا فنيا يستمتع بأدائه لا محاضرة علمية جافة فى مادة أكاديمية مقررة، وكان الله بالسر عليما!
كان رحمه الله، كما وصفه بصدق، تلميذه وصديقى الدكتور محمود عبدالغفار، نموذجا للعطاء الأبوى الخالص الذى يفيض على كل من حوله، وكانت أفكاره المتجددة والمغامرة وغير التقليدية، تجعله من الذين يمثلون، بحق ظاهرة «العيش فى المستقبل»؛ أى يجعلك تفكر فى الحاضر والمستقبل، ولا ترجع إلى الوراء.
كان شديد الفرح والفخر والإيمان بأبنائه الذين تخرجوا فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب، وبغيرهم من الأقسام والكليات الأخرى، كان يقول لى «الذات الموهوبة هى مصدر المعرفة؛ والموارد الخارجية للمعرفة من كتب ومعلمين مجرد غذاء للذات التى تهضم الغذاء وتقوم بتمثيله؛ أى تحويله إلى معرفة أصلية، فالفضل يرجع فى النهاية لذاتك الموهوبة».. وكنت أرد عليه خجلا «ولولا ما وجدته هذه الذات من زاد منحها الحياة والقوة والطاقة ما كان لها أن تظل وتستمر وتثمر، صدقنى يا دكتور سليمان، أنت راجل عظيم ومتواضع، منحت طاقة العمر والوعى لإضاءة عقول أبنائك وتلاميذك، ليتنا نستطيع القيام بهذا الدور مثلك.. ليتنا نستطيع ويتاح لنا أن نمنح شيئا لمن معنا أو بعدنا».
ــ4ــ
فضلا على غزارة علمه وواسع ثقافته، وتمكنه من الجمع بين مجالات وتخصصات عديدة، كان من المؤمنين بأن لا علم ولا ثقافة ولا محاضرة من دون أساسٍ من علاقة إنسانية قوية ومتينة بين الأستاذ وطلابه، هو الذى علمنى سلوكا قبل أن يكون حديثا مرسلا، أن «الأستاذ» قيمة كبيرة جدا ومؤثرة جدا للدرجة التى يمكن بها أن يكون سببا فى بناء إنسان أو هدمه، فى مساعدته على اختيار مصيره واجتياز الطريق، أو العكس، الأستاذ هنا ليس مجرد معلم ومحاضر، الأستاذ هنا داعم ومشجع ومفجر لطاقة إنسانية فريدة، لا مثيل لها وليس لها نظير... وقد كنت خير داعم لأبنائك، وخير أستاذ ومعلم وصديق.