الفلاحة والسِّيادة
صحافة عربية
آخر تحديث:
الأحد 20 مارس 2022 - 9:00 م
بتوقيت القاهرة
نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا بتاريخ 18 مارس 2022 للكاتبة آمال موسى، أوضحت فيه أن الأمن الحقيقى لأى دولة ــ بعد أزمتى كورونا وحرب أوكرانيا ــ يكمن فى القطاع الزراعى، فهو مفتاح الاستقرار السياسى وأداة صمودها أمام مختلف الأزمات. ركزت الكاتبة على واقع العالم العربى فيما يتعلق بالأمن الغذائى، وما يجب فعله.. نعرض من المقال ما يلى.
من أهم دروس جائحة «كوفيدــ19» والصراعات التى تنشب فى العالم، وآخرها أزمة أوكرانيا، أن الأمن الحقيقى لأى دولة يكمن فى قطاعها الفلاحى (الزراعي) الذى وحده يجعلها قادرة على الصمود فى الأزمات والتعويل على الذات والتقليص بشكل كبير من التداعيات والتأثيرات.
فالحاجة إلى الغذاء مرتبطة بالحياة والاستمرارية، وسياسيا هى مفتاح الاستقرار، وهو ما يكشف عنه بوضوح تاريخ الشعوب وثوراتها بما فى ذلك الثورة الفرنسيّة ذائعة الصيت، ولولا الجوع الذى لحق بالشعب الفرنسى آنذاك ربما لما كانت الثورة الفرنسية. وكل الثورات أسبابها اقتصادية سواء كان ذلك ظاهرا أو مخفيا. بمعنى آخر فإن الجوع والفقر والعنف الاقتصادى محركات رئيسية للواقع تاريخيا وحاضرا أيضا.
المُشكل أن الفلاحة كانت دائما حاضرة بقوة فى أولويات الدول. ولكن بدخول قطاعات أخرى جديدة على الخط، انحرف الاهتمام إليها من دون الانتباه إلى أن الفلاحة هى الأساس ولا يمكن التضحية بالفلاحة، مهما كانت السياحة مزدهرة ومهما كانت الصناعة متطورة والتكنولوجيا منتشرة. ذلك أن قطاعا مثل السياحة هو رهن الاستقرار الصحى والسياسى والأمنى للعالم، ولا يخفى ما عرفته السياحة فى البلدان العربية من ضرر كبير بسبب الإرهاب وتأثيراته الوخيمة على صورتنا وأيضا اقتصاداتنا. أهم ما فى هذه التجارب هو أن الارتباط بالواقع العالمى يجب أن يخضع إلى خطة عمل استراتيجية فى كل دولة بشكل تضمن فيه هذه الخطة أن تكون مسألة الأمن الاجتماعى الأدنى مرتبطة أساسا وأولا بالإنتاج الوطنى.. وهى مسألة ليست صعبة بالمرة.
وكى تحدد أى دولة مدى قدرتها على الوقوف أمام الأزمات مهما كان نوعها، فإن عرض ما تستورده وما تصدره، يكفى لقياس الأمن ووضعية الخطر. وكلّما كان المجتمع يأكل من تعب يديه ومن شجره ومن فلاحته، كان أقوى وأكثر صمودا أمام التقلبات والأزمات. ولقد اكتشفنا كيف أن العالم القرية قد يتحول إلى قرى صغيرة منغلقة مثلما وقع فى أزمة «كوفيد ــ 19».
وبوضوح شديد نقول إنّ الاستيراد هو المحدّد لمدى استقلاليّة الأمن الغذائى أو تبعيته، والأمن الغذائى فى صلة بالمنتجات الفلاحية التى تعد المصدر الأوحد للأمن الغذائى المضمون بجهد الفلاحين داخل البلد الواحد. وإذ نركز على هذا المعطى فلأن الأمن الغذائى يمكن تحقيقه بالاستيراد، ولكنه فى الحقيقة يظل آمنا عابرا ومرحليا ولا يمكن الوثوق بديمومته أو عدّه معطى قادرا يمكن البناء عليه فى تحديد الأمن الغذائى الحقيقى. لذلك وفى إطار الانتباه إلى مزالق مفهوم الأمن الغذائى تم إدراج فكرة أخرى أو مفهوم جديد أكثر تعبيرا عن المعنى المقصود وأكثر دقة وهو مفهوم: السيّادة الغذائية. والفرق بين مفهومى الأمن الغذائى والسيادة الغذائية كبير مع وجود ترابط عضوى باعتبار أن السيادة الغذائية تتحقق بالأمن الغذائى الوطنى.
ما يقوله الواقع العربى اليوم بشكل عام، مع تفاوتٍ طبعا، هو أن الأمن الغذائى يحتاج إلى انتباه مخصوص ومراجعة. والمراجعة المقصودة إنّما تأخذنا مباشرةً إلى الفلاحة وإلى رد الاعتبار للفلاحة لتكون القطاع الأول حتى لو كانت طبيعة البلاد الجغرافية والمناخية لا تساعد كثيرا فى ذلك. مع العلم أن التطورات التى عرفها العلم فى مجال الفلاحة تفتح بدائل شتى لخلق الغذاء.
وتأكيدا لما ذهبنا إليه من ربط بين الأمن والسيادة الغذائية والتعويل على الفلاحة، هو رهان الدول المتقدمة على الفلاحة والاستثمار فيها، وفى الوقت نفسه عدم تأثير الرهان على الصناعة والتقدم فيها على أولوية الفلاحة وتطويرها.
إنّ الفلاحة هى صمام الأمان لكل بلد يهدف بشكل حقيقى إلى السيادة الغذائية. ولا أمن غذائيا بلا سيادة غذائية، حيث إنّ الأمن من دون سيادة يعنى أن الأمن آنيٌّ وعابرٌ ولا ديمومة واضحة ومضمونة له.
نحتاج إلى ضبط استراتيجية عاجلة وجريئة وذات أولوية فى القطاع الفلاحى فى دولنا العربية: الانتباه أولا إلى ظاهرة التهرم التى بدأت تجتاح الفلاحة وسنّ تشريعات واتخاذ إجراءات تشجّع الشباب على العمل الفلاحى ويجب أن يكون الرّهان حقيقيا بشكل تذهب فيه الدول فى الحوافز والتشجيعات بعيدا، وعلى رأس هذه الحوافز القروض بفائض قيمة صفر وأيضا الرّهان على المرأة وعدم الاقتصار على دورها كيد عاملة.
إنّ سيادة الدول اليوم مستهدفة من تداعيات الحروب والتوترات والصراعات التى تعصف بالاقتصاد وبالسوق المالية العالمية، مما يؤثر على قيمة العملة وأسعار البترول والمواد الغذائية الأساسية. ومع جائحة «كورونا» رأينا فداحة غضب الطبيعة ومفاجعاتها إلى درجة إغلاق الحدود وتوقف المطارات وغالبية العالم فى الحجْر الصحى وركود حركة النقل الدوليّة.. وبناءً عليه فإن الحكمة تقتضى اليوم من أجل تأمين حياة الشعوب وتحصينها أكثر ما يمكن ضد تداعيات الأزمات المختلفة، الرهان على ما يحفظ السيادة: الفلاحة.