أكذوبة (بن لادن)
جلال أمين
آخر تحديث:
الجمعة 20 مايو 2011 - 9:08 ص
بتوقيت القاهرة
منذ نحو أسبوعين نشرت صحف العالم كله، (ومنها الصحف المصرية) صورة تتعلق بخبر مقتل أسامة بن لادن كانت صورة مدهشة وتثير الكثير من المعانى الجديرة بالتأمل.
11 شخصا من أكبر الشخصيات الأمريكية، جالسون وهم ينظرون جميعا فى اتجاه واحد، وقد ارتسمت على وجوههم سمة الاهتمام البالغ بما يشاهدون، وكأنهم لا يريدون أن تفوتهم لحظة واحدة أو أى من التفاصيل الصغيرة للمشهد.
جلس بينهم الرئيس أوباما خاشعا مثل الآخرين، بينما وضعت وزيرة الخارجية هيلارى كلينتون يدها على فمها مستغرقة تماما فيما تراه، وظهر وزير الدفاع فى الوسط فى حلة عسكرية بكامل نياشينها، وهو يضغط على أزرار أمامه مما يدل على أنه يتحكم فيما يراه الآخرون.
أمام كل من الجالسين جهاز كمبيوتر مفتوح، كالذى نشاهده كثيرا هذه الأيام، وأصبح يعتبر ــ خاصة للشباب ــ ضروريا للحياة مثل كوب الماء.
كان أول ما خطر لى لدى رؤية هذه الصورة أن هذا مثال جديد للدور الذى أصبحت تلعبه «الشاشة» فى حياتنا.
أنا أنتمى إلى جيل قديم لم يعرف شاشة التليفزيون إلا بعد أن تجاوز العشرين من عمره. ولكن أنظر إلى جيل أحفادى فأجدهم لا يستغنون عن شاشة الكمبيوتر سواء للاتصال بالعالم، أو بأصدقائهم، أو لممارسة مختلف الألعاب الإلكترونية. فإذا لم يكونوا أمام الكمبيوتر فهم يحملقون فى جهاز صغير له أسماء مختلفة تتغير كل بضعة أشهر، ولكن له دائما شاشة صغيرة أصبحت هى نافذتهم التى يطلون منها على العالم، وإن كانت تسد أبصارهم عن الأشخاص الحقيقيين المحيطين بهم.
ها هى الشاشة الشيطانية تبدو قادرة على إخضاع حتى أهم الرجال والنساء، فى أقوى بلاد العالم، بمن فيهم رئيس الجمهورية نفسه، فهم جالسون أمامها كما يجلس التلميذ الصغير أمام أستاذ عظيم، يتلقى منه المعلومات والتوجيهات، ولا يتجرأ على توجيه سؤال له أو مناقشته.
أما وزير الدفاع فسبب ما يتمتع به فى هذه الجلسة من مقام متميز، ليس إلا قدرته على اللعب ببعض الأزرار، ومن ثم قدرته على التحكم فيما يشاهده أو لا يشاهده الآخرون.
الأكثر مدعاة للدهشة هو ما جلس هؤلاء جميعا لمشاهدته. إنهم يتفرجون على جريمة قتل. ليس فيلما بوليسيا خياليا جرى إنتاجه للتسلية، بل جريمة قتل حقيقية يجرى تنفيذها لحظة بلحظة فى أثناء جلوس هؤلاء أمام الشاشة.
والقتل فى هذه الحالة ليس تنفيذا لحكم صدر من محكمة معترف بها بعد تقديم الحجج على إدانة المتهم وسماع أقواله دفاعا عن نفسه. ليس هذا بالمرة، بل قرار القتل صادر من حكومة دولة لا تكف عن الكلام عن حقوق الإنسان، ووقعه رئيس الجمهورية نفسه، وأمر رجاله بتنفيذه فى دولة أجنبية لم تستأذن فيما إذا كانت توافق على هذا العمل؟
وأعطى لهم سلطة قتل من يعترض طريقهم، من حراس المتهم أو أقاربه، ولو كان من بينهم زوجة المتهم وبعض أولاده.
ها هو هذا الرجل الذى جاء إلى منصب رئيس الجمهورية منذ عامين، محاطا بمختلف أنواع التهليل والإعجاب (حتى فى بلادنا نفسها)، وقال عبارات كثيرة عن تقديره للإسلام والمسلمين، يجلس كما يجلس الآخرون لمشاهدة تنفيذ عملية القتل، بعد أن وقع عليها بالموافقة، بدم بارد تماما، مع أنه كان بإمكانه القبض عليه وتقديمه للمحاكمة، خاصة أن هذا المتهم سبق أن اتهم اتهامات متعددة بقصد تبربر الهجوم الأمريكى على العراق، ثم تبين أنه برىء من هذه الاتهامات، الخطأ إذن جائز، ولا يجوز فى إثبات جرائم فظيعة كهذه الاعتماد على تسجيلات لأشرطة سبق إذاعتها بالصوت والصورة، من قناة الجزيرة فى قطر، وظهر فيها هذا الرجل، أسامة بن لادن، وهو يعترف فيها بتخطيط هذه الجريمة أو تلك، مثل تفجير البرجين الشهيرين فى نيويورك فى 11/9/2001. إذ إنه، فى العصر الذى نعيش فيه، يسهل جدا تزييف مثل هذه التسجيلات، وإضافة أى صوت لأى صورة، وإذاعته من قنوات تليفزيونية، خاصة إذا كانت من دولة صديقة للولايات المتحدة، وقد يكون لها مصلحة فى تأكيد التهم الموجهة لأسامة بن لادن.
هذا التناقض بين الادعاء بمراعاة حقوق الإنسان، ومثل هذا الاعتداء بالقتل دون محاكمة، ليس جديدا بالطبع، ولا حتى على الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة فى السنوات الأخيرة. فما أكثر ما يقوله السياسيون من أشياء لا يصدقونها، بل هى النقيض التام لما يعرفون أنه الحقيقة، وأظن أن هذا الاعتياد على الكذب المستمر هو الذى يفسر ما لاحظته مما يعترى السياسيين الكبار من مظاهر الشيخوخة المبكرة، بعد وقت قصير جدا من اعتلائهم الحكم، وربما كان هو أيضا ما يفسر ما لاحظته من تغيير على ملامح السيدة هيلارى كلينتون وتعبيرات وجهها، منذ اعتلائها منصب وزيرة الخارجية، إذ كثيرا ما تبدو الآن فى الصور بوجه جامد كالشمع لا يفصح عن أى خلجة من المشاعر.
●●●
ليس هذا بالضبط هو موضوعنا على أى حال، فالأكثر أهمية من الصور، وأكثر مدعاة للدهشة، هو ما تضمنته التقارير الواردة عن حادثة القتل، من أخبار متناقضة وغير قابلة للتصديق. واعترف للقارئ من البداية، بأن هذه ليست أول مرة أرفض فيها تصديق ما يقال عن أسامة بن لادن، بل إنى منذ سمعت عن تفجيرات نيويورك، ونسبتها إلى «بن لادن»، وإلى تنظيمه المسمى بـ«القاعدة»، توقفت تماما عن أخذ ما ينشر عن «بن لادن» مأخذ الجد، بل نظرت إلى ما ينشر ويقال عنه وكأنه أقرب إلى الروايات الخيالية منه إلى الحقائق الواقعية، بما فى ذلك ما قيل عن مقتله منذ أسبوعين.
ففى ساعة مبكرة جدا من صباح الثلاثاء 3 مايو الماضى، دق جرس التليفون فى بيتى على غير المعتاد فى مثل هذه الساعة، وكان المتكلم حفيدى الذى اعتقد أن لديه خبرا مهما يبرر الاتصال بى فى هذا الوقت. قال لى إن أسامة بن لادن قُتل. شكرته على تبليغى الخبر، وإن كنت لم أجد من المناسب أن أعبر له عما يدور بذهنى بصدد هذا الخبر، إذ لم أتوقع أن يكون فى تجاربه ما يسمح له بالتعاطف مع وجهة نظرى.
كان كل ما ورد إلىّ من أخبار عن أسامة بن لادن، منذ وقعت أحداث سبتمبر، قبل نحو عشرة أعوام، غير قابل للتصديق، أو على الأقل يناقض بعضه البعض بدرجة تدفع إلى تقليل الاهتمام بالأمر برمته. كنت قد قرأت مثلا، مقالا مطولا، بعد أحداث 11 سبتمبر مباشرة، فى مجلة إنجليزية محترمة، عن تاريخ حياة «بن لادن»، ورد فيه أنه كان فى شبابه يقضى أيامه فى العبث والعربدة، يتنقل من بيروت من ملهى ليلى إلى ملهى ليلى آخر، ثم حدث بعد فترة غامضة من حياته أن انضم فى أوائل الثمانينيات إلى صفوف المجاهدين الإسلاميين ضد الاحتلال السوفييتى لأفغانستان. ما أكبر هذا التحول! ولكن ما أغربه أيضا! شاب ثرى ينتقل فجأة من حياة العبث واللا مبالاة بأى شىء، إلى حياة الورع والتقوى والتضحية بالنفس من أجل المبدأ؟ ممكن، ولكنه ليس من الأمور المتوقعة من الطبيعة البشرية. تصادف أن هذا الكفاح ضد السوفييت فى أفغانستان فى الثمانينيات كان ملائما تماما لأهداف السياسة الأمريكية فى المنطقة، فهل يجوز أن يكون ما حدث من تحول لابن لادن قد جاء نتيجة اتفاق أو صفقة؟ ليس من المستبعد. ولكن حدث أيضا بعد انتهاء الاحتلال السوفييتى لأفغانستان أن أُعلن أن «بن لادن» قد أصبح زعيما لتنظيم إرهابى اسمه «القاعدة»، ثم تكرر المرة بعد الأخرى، أو نسبت إلى هذا التنظيم أعمال قتل وتفجير بالغة العنف والقسوة فى أماكن مختلفة من العالم، تصادف أيضا أنها من الممكن أن تتفق مع الأهداف الأمريكية فى هذه الأماكن المختلفة، أو على الأقل أن تستخدمها الإدارة الأمريكية والإعلام الخاضع لتأثير قوى من الولايات المتحدة، لخدمة هذه الأهداف، ولكنها تتعارض تماما مع روح الإسلام ومبادئه وتعاليمه. الجهاد من أجل تحرير دولة من نفوذ أجنبى ممكن ومشروع، ولكن ارتكاب مختلف أنواع العنف بما فى ذلك قتل الأبرياء فى كل مكان؟ هل يسمح الإسلام بهذا؟ فهل حدث يا ترى تحول آخر فى تفكير «بن لادن»، من شاب عابث، إلى مجاهد فى حرب تحريرية، ثم إلى مفجر للقنابل، مع نسبة هذا التفجير إلى الإسلام؟ هل هذه التحولات المذهلة مما يتفق أيضا مع الطبيعة البشرية، أم هى أقرب إلى تنفيذ أهداف غير معلن عنها لأنها ذميمة أخلاقيا، مع تحقيقها فى نفس الوقت لهدف تشويه سمعة الإسلام والمسلمين؟ أى التفسيرين أقرب إلى العقل؟ وهل نقتنع بتصديق كل ما يقال لنا مهما خالف مقتضيات العقل، لمجرد ظهور شريط مسجل على شاشة تليفزيون دولة صغيرة معروفة بعلاقتها الطيبة بالولايات المتحدة، يقول لنا إن بن لادن رجل ورع يعمل لصالح الإسلام، أو يظن أنه يعمل لصالحه، فيفجر هو وأنصاره المتفجرات فى كل مكان فى العالم؟
●●●
الآن يخبروننا بأنه تم قتله. وفى عقر داره، ودون مقاومة، وفى قصر منيف على بعد أمتار قليلة من مقر المخابرات الباكستانية (الصديقة أيضا للمخابرات الأمريكية)، بعد أن دوّخ «بن لادن» الولايات المتحدة كلها، ورؤساءها المتعاقبين، وأجهزة مخابراتها لمدة تقرب من عشرين عاما، دون جدوى. هل هذا أيضا قابل للتصديق؟ ولكن القصة تزداد درجة عبثيتها (بل وجنونها) عندما يضيفون إليها أن الأمريكيين قاموا، بعد قتله، بتغسيله طبقا للقواعد الإسلامية (هل كان هذا يا ترى إمعانا منهم فى استخدام الرأفة؟ أم هو إمعان فى احترام الإسلام وتقديره على نفس النحو الذى عبّر عنه الرئيس الأمريكى أوباما فى جامعة القاهرة قبل سنتين؟). ولكن للأسف لم تلتقط صور له بعد مقتله. لماذا يا ترى؟ مع أن التقاط الصور هى مهنة العصر؟ وألقيت جثته للأسف فى مياه المحيط. لماذا يا ترى، مع أن تعاليم الإسلام تقضى بدفنه؟
●●●
هناك فيما يبدو من اكتشف فى لحظة عبقرية، ولكنها أيضا شريرة جدا، أن الإنسان كائن ذو عقل هش جدا، بحيث يمكن التلاعب به والتمويه عليه بسهولة بشرط اتباع مجموعة من القواعد. منها التكرار. لا تكف عن تكرار الأكذوبة فتجد أنها تحولت إلى حقيقة. العقل الإنسانى يبدو ضعيفا جدا أمام الإلحاح، أيا كان مضمون الرسالة التى يجرى الإلحاح عليها. ومن قبل الالحاح أيضا استخدام الوسائل الجماهيرية فى الإعلام، إذ سوف يساعدك العدد الكبير من الناس الذين يتعرضون للأكذوبة، المرة بعد الأخرى، فى تكرارها ونشرها، فيقومون هم، بالنيابة عن مختلق الأكذوبة، بالالحاح عليها وترويجها حتى يتم تصديقها. ومن الوسائل الفعّالة أيضا فى خداع العقل الإنسانى، استخدام الصورة، ويا حبذا لو كانت صورة متحركة، وكانت أيضا تقترن بالصوت. فالعقل الإنسانى ضعيف أيضا أمام الصور المتحركة خاصة إذا اقترنت بموسيقى مثيرة وإيقاع عال. من هذه الوسائل الفعّالة أيضا فى التمويه، اقتران الكذب بالتخويف إذ بالتخويف يمكن أن يفقد العقل الإنسانى قدرته على المقاومة، فيصدق ما لا يجب تصديقه.
لاشك فى أن هذه الوسائل وغيرها قد نجحت نجاحا تاما فى تثبيت أكذوبة «بن لادن»، إذ فلتنظر إلى خروج المظاهرات فى أماكن كثيرة من العالم للتنديد بالولايات المتحدة، ليس بسبب اختلاق الأكذوبة والترويج لها، بل بسبب قيامها بقتل رجل ورع ومخلص للإسلام. بل لقد وصل هذا النجاح فى الترويج للأكذوبة أن قرأنا المقالات والتعليقات من كثير من الكتاب، بعضهم يبدون عقلاء تماما عندما يكتبون فى موضوعات أخرى، فيعبرون عن تقديرهم البالغ لابن لادن، وما كان يقوم به ويرمز له، إلى حد أن وصفه كاتب كبير بأنه مزيج من رجلين عظيمين: المهاتما غاندى وتشى جيفارا!
●●●
لم أحاول بالطبع أن أشرح كل هذا لحفيدى الذى لم يبلغ بعد السابعة عشرة من عمره، ولكن كيف لا أصارح القارئ اللبيب الذى تجاوز هذه السن، بما أعتقد أنه الحقيقة؟