سأصوت لأبو الفتوح
إبراهيم الهضيبى
آخر تحديث:
الأحد 20 مايو 2012 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
الاستقطاب على أساس هوية الدولة، والذي يصر البعض على الدفع باتجاهه هو أخطر ما يواجه الثورة المصرية وهي على أعتاب الانتخابات الرئاسية، وتجاوز هذا الاستقطاب المصطنع عند اختيار الرئيس واجب، ليصل للقصر من يستطيع خوض معركة استرداد السيادة الشعبية.
هذا الاستقطاب -الذي هو من أمراض نخبة مبارك، ومن نتائج عقود طويلة منع فيها المصريون من حريتهم - يبقي الصراع السياسي في إطار نخبوي، بحيث لا تتم مناقشة القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تهم القطاع الأوسع من المواطنين، ولا وسائل تمكينهم وضمان سيادتهم، ثم إن حدة هذا الاستقطاب سمحت تدريجيا خلال الأشهر الماضية بتطبيع العلاقة مع الفلول، وتركت مساحات واسعة بين التيارات المنتسبة للثورة نفذ هؤلاء من بينها حتى صار من بين المرشحين للرئاسة من يعد بإعادة تصنيع نظام مبارك، ومن يعد بالعودة لنهاية القرن المنصرم، أي نظام لمبارك قبل صعود ابنه جمال.
ومعايير اختيار الرئيس القادم لابد أن تتجاوز هذا الاستقطاب إلى اصطفاف للقوى الوطنية تستطيع به انتزاع السلطة كاملة، وثمة معايير تتعلق ببرنامج المرشح، وهي ستة، أولها ما يتعلق بالهوية، وفيه سيكون المرشح الأقرب لمنهج الأزهر الشريف - بأصالته العلمية ومنهجه التراثي- أقدر من غيره بناء التوافق واستيعاب الخلاف وإدراك التحديات الحالة، وثانيها يتعلق بالاقتصاد، والمعيار الرئيس فيه هو الانحياز للمستضعفين والفقراء، والقدرة على تحقيق إنجاز في قضية العدالة الاجتماعية، وثالثها الموقف الحقوقي وفيه الانحياز للحقوق المدنية والسياسية المعيار الأهم، ورابعها الموقف الديمقراطي، والأفضلية فيه تكون لمن ينحاز للتشاركية وتمكين الشعب، وخامسها السياسة الخارجية لمن يحفظ الاستقلال الوطني بسياسة معادية لإسرائيل، مستقلة عن أمريكا، متقاربة مع المحيط العربي والإسلامي والإفريقي، محافظة على الميل الجنوبي، وسادسها جودة وتركيب ووضوح المشروع التنفيذي في كل من هذه النقاط.
تضاف لذلك معايير أخرى تتعلق بشخص المرشح، منها احترامه التخصص، وقدرته على تقبل النقد، وعلى قيادة تفاوض يقرب وجهات النظر، وعلى خوض معارك النفس الطويل التي بها تتحرر إرادة المؤسسات لتكون معبرة عن الشعب، ومنها ما يتعلق بنزاهته كنظافة اليد والصدق.
وبطبيعة الحال فإن تلك المعايير لا تنطبق انطباقا كاملا على أي من المرشحين، غير أن بعضهم أقرب إليها من غيرهم، وهؤلاء لا بد من السعي لإيصالهم للحكم مع استمرار نقدهم وتقويمهم، وتقديري أن الأقرب من هؤلاء لهذه المعايير هو الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، فأما من حيث الهوية الدينية فمشروعه يقوم على التسليم بمرجعية وثيقة الأزهر، واعتبار علمائه المرجعية المعتمدة في التعرف على أحكام الشرع.
أما ما يدور من جدل عن علاقته بالجماعة الإسلامية يقوم على الخلط بين الجماعة الدينية التي أسسها مع غيره من طلبة الجامعات في بداية السبيعات ثم تحولت لمسمى الجماعة الإسلامية ولم تكن تنتهج العنف، وبين الجماعة الإسلامية المسلحة التي انشقت عن تلك الأولى بعد قطيعة فكرية ومارست عنفا لمدة عقدين ثم تراجعت عنه وصارت جزءا من المشهد السياسي، وهذه الفروق بين الجماعتين أشار إليها المهندس أبو العلا ماضي في كتابه (جماعات العنف المصرية وتأويلاتها للإسلام) الذي فيه ينقل شهادته عن الانفصال بين الفريقين، كما نقلت الدكتورة سلوى العوا شهادات قيادات الجماعة في كتابها (الجماعة الإسلامية المسلحة في مصر)، ومجمل هذه الشهادات أن أبو الفتوح كان على رأس الفريق الرافض للعنف، الراغب في المنافسة السياسية السلمية، كما أن أفكاره تطورت كثيرا خلال العقود الماضية، ثم انطلقت إلى آفاق جديدة خلال العام المنصرم الذي كان انشغاله فيه بالسياسة - بمعنى التدبير- أكثر من ذي قبل.
أما في البرنامج الاقتصادي فرؤية أبو الفتوح فيه تقوم على كون مصر دولة (مفقرة) تعاني سوء توزيع مواردها، وبرنامجه للعدالة الاجتماعية والتنمية الإنسانية يركز فيه محوري التعليم والصحة، فيعيد توجيه الموارد لضمان جودة ومجانية الخدمة التعليمية والصحية الشاملة، ويربط ذلك بمكافحة الفقر، وإقرار حد أدنى للأجور والدخول، وبالمشكلات اجتماعية أخرى كالأسر التي تعيلها نساء، وبقضايا لها علاقة ببنية النظام الاقتصادي كتوجه الدعم للأغنياء لا الفقراء، والرؤية التي يقدمها هي ورؤية المرشح خالد علي الأكثر جذرية في بنية النظام الاقتصادي.
وعلى الصعيد الحقوقي يبدو أبو الفتوح منحازا للحقوق السياسية بالكامل، وموقفه من الإبداع أكثر انحيازا للحريات من عموم الشعب، وأقل بعض المرشحين بفروق غير مؤثرة في الواقع العملي في المستقبل المنظور، أما في تعميق السيادة فلا شك أن ما يطرحه في برنامجه من آليات للديمقراطية التشاركية هو الأكثر تطورا بين المرشحين.
وفي السياسة الخارجية يقف أبو الفتوح، مع المرشحين حمدين صباحي وخالد علي، في المعسكر المدافع عن الاستقلالية بلا مهادنة: يصرح بالعداء لإسرائيل، ويؤكد أن السياسة الخارجية تقوم على قدمين هما استقلال الإرادة المصرية وتحقيق المصلحة الوطنية، ويقدم مواقف تتسم بالوضوح فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية، ويتعامل في برنامجه مع قضية مياه النيل، والمناطق الحدودية باعتبارها قضايا أمن قومي يتم علاجها على مستويات سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة.
وعلى مستوى المرشح فأهم ما يميز أبو الفتوح قدرته على صياغة تفاهمات، فكل طرف يجد فيه بعض ما يريده لا كله، وبالتالي فهو الرقم الصعب الذي لا يمكن بسهولة أن تحسبه على (المعسكر الآخر) في إطار مناخ الاستقطاب الذي نعيشه، ولذلك فإنه - في هذا المناخ - يواجه اتهامات متناقضة، فهو تارة سيفرض الحجاب بالقانون وتاره سيمنعه بالقانون، ويقول بعض كارهي الإخوان أنه مرشح الإخوان الخفي فيما يقول بعض الإخوان أنه سيحل الجماعة ويسجن قادتها، ويتهمه غير الإسلاميين بالارتماء في أحضان السلفيين بعد تأييد حزب النور له، فيما يراه بعض الإسلاميين متخليا عن الهوية بالكامل باستناده في صياغة برنامجه لأهل الخبرة والاختصاص والتميز من الاتجاهات المختلفة، والقابلين بالعمل في ضوء التوجهات الكلية التي سبقت الإشارة إليها في فقرة سابقة.
وهذه الحالة تجعل أبو الفتوح مرشحا غير مقلق لأي طرف رئيس من القوى الثورية، وهو لا يعادي أي تيار فكري بل يتوزع أنصاره بين أبناء هذه التيارات المختلفة، وعليه فهو قادر في حال نجاحه على إيجاد صيغة جامعة للتعايش، ومن ثم الجدل السياسي من خانة الهوية والأيديولوجية الصلبة إلى خانة البرامج والمقاصد، فيكون أكثر فائدة ويدفع باتجاه تحقيق أهداف الثورة.
عندي ولا شك تحفظات على أداء أبو الفتوح وبرنامجه، غير أني أدرك دقة اللحظة الاستثنائية التي نعيشها، والتي لا نمتلك فيها رفاهية مقاطعة الانتخابات التي يمتلكها المواطنون في الديمقراطيات المستقرة (لأن ذلك سيؤدي قطعا لردة لنظام مبارك)، كما أننا لا نملك ترف إهدار فرصة الانتقال للإمام بالقبول بالأسر لجدل الهوية، ولا نملك ترف (إهدار الصوت) لمرشح لا فرصة له في الفوز من أجل إثبات الموقف، لأن إهدار حق التصويت هذه المرة قد يعني إهداره لأجل غير مسمى، ولا شك أن احترامي لأبو الفتوح يزيد كثيرا عن تحفظاتي على مشروعه السياسي، وحرصي على انتخاب رئيس لا يرضي فقط أنصاره وإنما يشترك مع خصومه في بعض تصوراتهم، يجعلني أقرر أن أصوت لأبو الفتوح، لأني أريد رئيسا تصلح معه المعارضة.