قبل السقوط: العائلة المالكة تلهو قليلاً
منى أنيس
آخر تحديث:
الإثنين 20 مايو 2013 - 10:15 ص
بتوقيت القاهرة
عرفت مصر منذ أوائل القرن الماضي نخبة لامعة من المؤرخين الوطنيين المتميزين من أمثال محمد صبري السوربوني وشفيق غربال وأحمد عزت عبد الكريم وأحمد عبد الرحيم مصطفي ومحمد أنيس، الذين تتلمذوا علي أكبر أساتذة التاريخ في العالم وعادوا لمصر بعلم وفير، فأسسوا مدرسة وطنية في التاريخ عشنا طويلا علي انجازاتها. ولكن ما أبعد اليوم عن البارحة، فنحن لا نكاد الان نجد جديدا نقرأه باللغة العربية عن تاريخنا. أقول هذا بمناسبة مشاهدتي لفيلم وثائقي مثير عن أيام الملكية الأخيرة في مصر، كشف لي اشياءا لم أكن أعرفها عن تلك المرحلة التي تتسم الكتابة السائدة عنها بتحيزات أيديولوجية متعددة.
●●●
في قاعة المجلس البريطاني بالعجوزة شاهدت هذا الأسبوع الفيلم التسجيلي "البحث عن النفط والرمال"، وعندما جاءتني الدعوة لحضور العرض، ومع قراءة النبذة المعتادة علي سبيل الدعاية للفيلم، تملكتني حالة من الدهشة والفضول الشديدين، بل وربما الأسي أيضا، كون هذا الفيلم الذي يتناول حقبة شديدة الاهمية من تاريخ مصر المعاصر، والذي يعرض للمرة الأولي تسجيلات سينمائية نادرة للعديد من أفراد أسرة محمد علي أسابيع قبل الإطاحة بملكهم، لم يحظ بالاهتمام الواجب ولم يسمع به إلا القلة القليلة منذ خروجه للنور العام الماضي.
وفيلم "البحث عن النفط والرمال" يحكي قصة فيلما آخر من انتاج عام 1952 باسم "نفط ورمال" تم العثور مؤخرا علي شرائط 8 مللي تصور ابطاله وهم يستعدون لتمثيله، وهو التقليد المعروف في عالم السينما باسم "الماكينج" أي تصوير ما يدور في الكواليس أثناء العمل. وقد تم العثور علي نسخة "الماكينج" هذه في منزل محمود ثابت، ابن المؤرخ الاجتماعي عادل ثابت، حفيد محمد شريف باشا رئيس وزراء مصر الاسبق واحد اقرباء الملك فاروق من ناحية والدته. أما النسخة ال 16 ملي من فيلم "نفط ورمال"، والتي يخبرنا محمود ثابت بانه تم تنفيذها بالتعاون مع أستوديو مصر، فقد قام مخرج الفيلم، بلنت رؤوف زوج الأميرة فايزة أخت الملك السابق فاروق، بإعدامها بعد قيام حركة الجيش في يوليو 1952 كي لا يستغلها الضباط الأحرار في التشهير بالعائلة.
ونظرا لأن المادة الفيلمية التي تم العثور عليها تعد ملكية عائلية لمحمود ثابت، فقد قرر ان يكون هو الشخصية الرئيسية في الفيلم الجديد الذي يحكي قصة الفيلم القديم، والذي اسماه "البحث عن النفط والرمال" في اشارة واضحة لمجهوده البحثي لإحياء الفيلم القديم والسياق الاجتماعي لذلك الفيلم. وفي القلب من هذا السياق الاجتماعي لأيام الملكية الأخيرة، نجد مجموعة صغيرة من أفراد العائلة المالكة واقاربهم واصدقائهم الذين عرفوا باسم "شلة قصر الزهرية"، وهي الشلة التي تزعمتها سيدة قصر الزهرية (حاليا معهد التربية الرياضية بالجزيرة) الأميرة فايزة. يحكي لنا محمود ثابت كيف أولعت هذه الشلة بفن السينما، وكيف أقامت الاميرة فايزة وزوجها التركي سينما صيفي علي سطح قصر الزهرية، واقتنيا معدات السينما المختلفة، وأخيرا قرر زوجها -- في صيف عام 1952، ولاحظ التاريخ هنا-- انتاج فيلما يعتمد في اخراجه وتصويره وتمثيله علي أفراد الشلة.
والشلة التي تظهر في فيلم "الماكينج" تضم: الاميرة فايزة، التي لم يسند لها أي دور في الفيلم الأصلي نظرا لحساسية وضعها كأخت الملك، وزوجها بلنت رؤوف مخرج الفيلم، والنبيلة نيفين عباس حليم والنبيل حسن حسن اللذان قاما بالتمثيل وهما من أحفاد محمد علي، والأمير نامق وهو حفيد السلطان محمد رشاد السادس آخر سلاطين العثمانيين وقد اسند اليه هو الأخر دورا في الفيلم. أما باقي الشلة من غير ذوي الدماء الزرقاء والذين قاموا بالاشتراك في فيلم "نفط ورمال" فهم: الإخوان فايد ثابت وعادل ثابت، وزوجة عادل ثابت، وهي ممثلة أمريكية مغمورة، ودبلوماسي بريطاني ودبلوماسي امريكي. وقد فاتني اسم الدبلوماسي البريطاني، الا ان اسم الدبلوماسي الامريكي هو روبرت سمبسون سكرتير السفير الامريكي في مصر آنذاك جيفرسون كافري، والذي لعب هو ورئيسه دورا بالغ الأهمية في الساعات الأخيرة من حكم الملك فاروق.
●●●
تري هل كان اولئك الأمراء يدركون وهم يلهون بتمثيل فيلم عن التنافس الانجلو-أمريكي في المنطقة مع روبرت سمبسون، أن نفس هذا الشخص سيكون بعد أسابيع قليلة أول أجنبي يسمح له برؤية الملك في قصر رأس التين للتفاوض معه بشأن خروجه من البلاد؟ في شهر اغسطس من عام 1952 حكي اللواء محمد نجيب لدافيد دوجلاس دنكان، الصحفي بمجلة لايف الأمريكية، كيف سمح الضباط الأحرار لروبرت سمبسون بلقاء الملك والتفاوض معه. ويقول محمد نجيب ان الملك وجه سؤالين لسمبسون: هل استطيع ان اطلب من كافري ان يبذل قصاري جهده لإنقاذ حياتي؟ وهل اطمع إذا تمكن من ذلك أن يكون في وداعي لدي مغادرة البلاد. ولست بحاجة للتأكيد علي نجاح مهمة سمبسون، فكلنا شاهد العديد من المرات صورة جيفرسون كافري وهو يودع الملك علي ظهر اليخت الملكي المحروسة يوم 26 يوليو 1952.
مالم نره من قبل، وما نراه بوضوح في فيلم "البحث عن النفط والرمال" هو شكل ونوع حياة اللهو التي عاشتها "شلة الزهرية" حتي آخر يوم من أيام الملكية. فنحن نري فيلم 8 ملي آخر للشلة في رحلة صيد بحرية ساعات قبل ان تحاصر الدبابات قصر رأس التين، وهكذا فانهم لم يدروا بالانقلاب الا لدي عودتهم بصيدهم الوفير لشاطئ الإسكندرية. والواقع ان فيلم "البحث عن النفط والرمال" يرسم صورة لاهية جدا لمجموعة من أولاد الذوات الغافلين عما ينتظرهم بعد ساعات قليلة. بل أن قصة فيلم "نفط ورمال" نفسها تبين لنا العالم الاستشراقي الذي استولي علي عقل هذه المجموعة، فقصة الفيلم تدور في إمارة صحراوية نفطية، حيث يتصارع البريطانيون والأمريكيون علي تقوية نفوذهم في هذه الإمارة ويدبرون المكائد مع أحد شيوخ هذه الإمارة لكي ينقلب علي الحاكم.
وخلال أحداث هذه القصة الاستشراقية بامتياز، والتي يجري تصويرها في عزبة عائلة عادل ثابت في "بني يوسف" بالقرب من أهرامات الجيزة، والتي يلعب الفلاحون فيها دور الكومبارس، نتعرف علي أميرة، تلعب دورها الأميرة نيفين حليم، يخطفها البدو الأشرار وينقذها فارس علي حصان أبيض. ولعل أكثر أجزاء فيلم "البحث عن النفط والرمال" رقة هي تلك الأجزاء التي تظهر فيها نيفين عباس حليم بعد أن طعنت في السن لتعلق علي أحداث الفيلم القديم وتتحدث بصراحة شديدة عن أجواء الأيام الأخيرة للملكية في مصر حيث تعترف بكراهية الشعب للملك فاروق وتشير الي الفارس الذي يظهر في الفيلم علي الحصان الأبيض لينقذها وتقول ضاحكة: لقد تزوجته بعد عدة أشهر من هذا الفيلم.
ولعل ما ينقص هذا الفيلم هو غياب أصوات أخري على شاكلة صوت الأميرة نيفين، سواء من المعاصرين للمرحلة أو من باحثيها الثقاة. فالفيلم يهيمن عليه صوت محمود ثابت، بإنجليزيته الطليقة ونظرته الأحادية للتاريخ. وقد ساعد في إخراج فيلم "البحث عن النفط والرمال" الي الوجود بعض المؤسسات البحثية الأجنبية، مثل مؤسسة فورد ومركز الحوار المصري الدانماركي، والواقع انني أشعر بالحزن الشديد في كل مرة أري فيها اهتمام المؤسسات الأجنبية بالتاريخ المصري، قديمه وحديثه، بينما تغط مؤسساتنا البحثية في سبات عميق.
●●●
هل أدلكم علي فكرة متواضعة بمناسبة موضوع أيام الملكية الأخيرة الذي يطرحه فيلم "البحث عن النفط والرمال": فليذهب أحد الباحثين الشبان للاطلاع علي أوراق جيفرسون كافري الخاصة بالفترة التي أمضاها سفيرا للولايات المتحدة في مصر (1949-1953)، والمودعة بجامعة لويزيانا لافاييت بالولايات المتحدة الأمريكية، وليعد لنا بكتاب بالعربية عن الدور الأمريكي أبان تلك الفترة.